عودة الاشتراكية!!
هاشم غرايبة
11/19/2011
قبل حوالي قرن، حلم البشر بـ "الاشتراكية" كنظام اقتصادي أكثر عدلا.. وحاولوا وضع البشرية على عتبة حياة جديدة تُحدث قطيعة مع الاستغلال البشع والحروب المدمرة..
والآن، بعد أن خَفَت حلم "الاشتراكية" الجميل، حتى صار يخجل به من حلموا به وسعوا لتطبيقه، ها هو ذا النظام "المنتصر"، الذي هلل لخفوت ذلك الحلم، وكتب "نهاية التاريخ" وإلى الأبد!.. ها هو ذا يعيش "أزمة" دائمة لا أفق واضح للخروج منها.. فهل آن الأوان للرأسماليين أن يخجلوا؟!
الجشع الرأسمالي قاد لاكتشاف أن الاستثمار في "الإنتاج" ذا مردود ضيق، فخلق سوقا موازيا ابتكر له مكانزمات ماكرة كي تكون مردوديته بلا حدود، وقدرته على نهب الشعوب أسرع. إنه رأس المال المالي الذي أتى بسندات الدين، والمضاربات في البورصة، وعزز سطوة البنوك كأسرع وسيله للنهب؛ وإفقار الناس والدول أيضا. ففي حين أن نسبة الأرباح في القطاع الإنتاجي لا تكاد تقترب من 20% سنويا، تتجاوز مثيلتها في سوق المال حد الـ 20% في الشهر الواحد أحيانا!! وهكذا طغى سوق المال على الاقتصاد وصار إنتاج السلع لا يدر ربحا يشبع نهم البرجوازية التي كانت فيما مضى تكتفي بالحصة الأكبر من عوائد "فائض الإنتاج"، و تبقي هامشا معقولا للرعاية الاجتماعية. لكن أسواق المال سرّعت هذا النهب وعززت نفوذ أرباب المال ومشعلي الحروب حتى صارت بورصات وبنوك اليوم تُوقع المجتمعات البشرية والدول الكبرى في أزمات لا فكاك منها.
اليونان هي الضحية الماثلة أمامنا اليوم، والاقتصاديات التي عليها أن تتخلى عن بعض كعكتها لصالح "أزمة" اليونان هي الآن في أزمة أيضا، فالبطالة والتضخم وتراجع معدلات النمو تزداد في العديد من هذه الدول "المتقدمة!"، وصارت منظومة اليورو في وضع لا تحسد عليه.
"الأزمة" إذن لا تخص اليونان وحدها. بل النظام الاقتصادي العالمي.. من هنا تعلقت الأنظار بالصين ودول أخرى كانت تسمى "نامية" لإنقاذ الاقتصاديات الكبرى راعية النظام الرأسمالي، وأمريكا رأس هذا النظام وقائدته باتت عاجزة عن إنقاذ دولة صغيرة ، وتابعة سياسيا لهذه المنظومة، من أزمة يعرف الجميع ويعترف بأنها إن لم تعالج فلا أحد يدري مدى حدود هزاتها، وارتداداتها..
حتما هذا يعني أن النظام الرأسمالي كله في "أزمة" بنيوية حادة.
لنأخذ مثلا أزمة 2007 المعروفة بـ "الرهن العقاري": هناك منازل بنيت، أي أن المجتمع لديه من الإمكانات ما يكفي لبناء تلك المساكن، ومن جهة أخرى هناك مواطنون في حاجة إلى مأوى. فإذا أخذنا المجتمع الأمريكي كوحدة متماسكة فليس هناك من أزمة. لكن إذا أخذنا المجتمع الأمريكي كمجموعتين مختلفتي المصالح فهناك أزمتين وليس أزمة واحدة:
_الأزمة الأولى أزمة الفئات التي لا سكن لها ولا موارد كافية لامتلاك هذا الحق الأساسي من حقوق المواطنة.
_الأزمة الثانية أزمة فئة استحوذت على خيرات المجتمع إلى درجة أنها لم تترك فيه حتى من يستطيع أن يشتري منتجاتها.
الأزمة إذن هي أزمتان:
- أزمة برجوازية جشعة تريد أن تتنكر لمقومات الدولة الرجوازية بوصفها "دولة الرعاية الاجتماعية".
- وأزمة الفئات المهمشة والتي في طريقها إلى التهميش، التي رمتها الرأسمالية المتوحشة، في متاهة الركض وراء لقمة العيش..
أزمة وول ستريت أجبرت الدولة على التدخل لإنقاذ مؤسسات بنكية تتجه نحو الإفلاس، ويتكرر الأمر في اليونان الآن. فهل لدى اليونان مثلا – الرأس الظاهر من جبل الجليد - صندوق مماثل لإنقاذ فئات اجتماعية بكاملها مقبلة على الإفلاس بسبب برنامج التقشف الذي اعتمدته لإنقاذ اقتصادياتها؛ بل لإنقاذ بنوكها؟؟
حتى في اليونان المفلسة يفرضون خطط تقشف على الناس من أجل حماية البنوك..!!
يقول Paul Grignon، مؤلف كتاب "النقد والديْن"، بأن [المؤسسات البنكية الخاصة صارت شبه مسيطرة تماما على الاقتصاد، وصارت تقدم دينا له خاصية عدم الأداء. فالمؤسسات البنكية تخلق فقط النقد الذي يُمنح قرضا، ولا تخلق الفرص التي تساعد على تأدية حتى فوائد هذا الدين. من هنا فالنظام الاقتصادي متجه حتماً نحو الإفلاس.]
ويضيف، [على الدولة أن تضع حدا لاستقلالية البنوك، وأن تأخذ عملية تدوير فائض الثروة بين يديها.].
لقد صار واضحا أن استمرار سيادة هذا النظام المالي الربوي بلا حدود تعني أن مستقبل البشرية محمول على الاحتمالات الغامضة، فيما المنظرون الاقتصاديون البرجوازيون لا يزالون يعيشون خوفا داخليا من أي رجوع محتمل للاشتراكية..
الدول المريضة في القارة العجوز لا تجد الترياق عند سيدة العالم الحر أمريكا، بل تطلب النجدة من اقتصاديات كانت تنكرها بالأمس القريب (الصين والهند ونفط ليبيا وأمثالها).. وتريد استعادة أقل ما يمكن من "الدولاتية" وقاية من المجهول القادم بمسمى جديد وعقل جديد لعالم جديد؛ عالم ما بعد الرأسمالية المتوحشة..
لنا أن نتشاءم، لنا أن نتفاءل، ولكن بقاء الحال من المحال