الى أين؟
زاوية هاشم غرايبةSunday, November 21, 2010
على البنايات، والأعمدة، وأشجار الرصيف؛ مخلفات الانتخابات الأخيرة، ملصقات لا تزول، ومزق يافطات تعبث بها الريح، وأشجار حرجية محروقة أيضا!.. على الشوارع العامة مخلفات أضاحي العيد، وأثار حظائر الأغنام.. في الأسواق مخلفات المبيعات تتناثر أمام الدكاكين.. على أدراج البنايات مخلفات ألعاب الأطفال، ونثار مشترياتهم.. على ضفاف الأوتسترادات مخلفات الوجبات السريعة، وحطام الزجاجات الفارغة.. على حواف الوديان مخلفات مزارع الدواجن، ومخرجات الحفر، وأنقاض الردم. وبين أشجار الزيتون مخلفات الهش والنش، وجمر الأراجيل، وفوط الأطفال.. وفي الأرض البور لوحة سريالية للأشواك ترفرف عليها أكياس بلاستيكية من كل لون وحجم!
من أين يأتي سيل المخلفات التي لا تنضب!.. من تواكلنا واتكالنا، أم من فرديتنا وأنانيتنا التي لا تحترم البيئة، ولا تستحي من الجار، ولا تراعي حق الطريق.. بل ونستشيط غضباً أذا مرّ فاعل خير وقال: لمّوا مخلفاتكم، وتراجعوا عن مخالفاتكم يرحمكم الله!
هل حقاً بتنا لا نبالي بالملكية العامة!.. هل صرنا نعتبر أن كل ما هو خارج باب البيت لا يعنينا.. على من نتكل؟ هل نتوقع من الجهات المسؤولة أن تخصص لكل واحد منا خادم يعتني بمخلفاته!
لا لم نكن كذلك أبدا.. كان في سهولنا حارس للحقول نسميه « المخضّر» لأنه يحافظ على نضارة المزروعات وخضرتها، وفي أحراشنا كان «طوّاف الأحراش» يصون الغابة، ويحمي كائناتها.. وكان الناس يدوّرون نفاياتهم بما يخدم احتياجاتهم، وكانت سلوكيات الأفراد تصب في مصلحة الجماعة..
كانت أمهاتنا وجداتنا يكنسن الشارع أمام البيت على اتساعه.. كان آباؤنا وأجدادنا يميطون الأذى عن الطريق.. وكان التاجر أو صاحب الحرفة يحرص على إخفاء مخلفات بضاعته خلف «النصبة» ولا يعرضها على قارعة الطريق.. وكان منتسبوالمؤسسات العامة يحرصون عليها حرصهم على ممتلكاتهم الخاصة.
قبل انتشار أفكار الاشتراكية، وقبل أن تظهر «التعاونيات» بأنظمتها وأهدافها وآلياتها المعاصرة، وقبل أن تحرّضنا مؤسسات التمويل الأجنبي بتمويلاتها المشروخة على التكافل الاجتماعي، اشتق مجتمعنا الأردني في الريف والبادية والمدينة أعرافاً اجتماعية بسيطة تعينهم على تسيير حياتهم.. تعاونوا على الحصاد، وعلى قطاف الزيتون، وعلى طين البيوت، وعلى جزّ الصوف، وعلى حياكة البسط.. أعرف سكان قرى تعاونوا على بناء مدارس لأولادهم، ومستوصفات بسيطة لمرضاهم في مطلع القرن العشرين، وتعاونوا على صيانتها.. كما تعاونوا على حفر الآبار، وزراعة الأشجار، وتمهيد الطرق، وأزالوا الأنقاض، وعمّروا المساجد، وسملوا رواسب البرك العامة استعداداً للموسم الجديد..
مفاهيم بسيطة مثل «العونة» التي أسلفنا الحديث عنها، و«النزالة» حين كان يولم الجار لجاره الجديد للتعارف والتآلف، و«الفزعة» التي ليست للهوشات وتأجيج النزاعات، بل لمساعدة المحتاج، ورد لهفة الملهوف.. هذه مفاهيم بسيطة وراسخة في تراثنا إذا أحسنّا استرجاعها فمن شأنها أن ترمم ما تثلم، وما تصدع، وتجلي ما علاه الصدأ، وأن تُحيي في المجتمع ألفته وتواده وتراحمه وتضامنه.
لكني وأنا أنظر إلى ذلك الجانب المستهجن في سلوكنا الاجتماعي، أرى ما رأى فارس الشدياق حين قال:
أرى زماني وفي سيماه تبشير بأن في الناس شهما طبعه الخير
سيل المخالفات الاجتماعية ينكد العيش، لكن نبع العطاء والمشاركة والحس بالمسؤولية لا يبخل بعطائه، والخير بين الناس لا تنقطع أسبابه؛ فقد قُيّض لي التواصل مع مجموعة من شباب جمعية خيرية في قرية بسيطة.. تآلفوا على العمل النافع بدل التذمر والاحتجاج الكسيح، واجتمعوا لخدمة المجتمع عبر لجان العمل التطوعي؛ فأماطوا الأذى عن الطريق ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا عبر ثلاث حملات نظافة خلال ستة أشهر.. وقد دعمهم عطوفة مدير شرطة إقليم الشمال بأن منح نفراً منهم صلاحية إصدار مخالفات رسمية، وقاموا لحد الآن بحملتين للتبرع بالدم لمرضى التلاسيميا، وقبيل العيد نظموا حملة جمع وإعادة توزيع مجلات أطفال وكتب مطالعة، وألعاب للأطفال في محيطهم بمناسبة العيد، وهم يقومون الآن بجمع الملابس من أجل معونة الشتاء.. هذه التجربة الفتية والغنية بدلالاتها حريٌ بها أن تُعمم، وحريٌ بالجهات المعنية تشجيع الشباب لاستثمار طاقاتهم، ووقت فراغهم لما فيه منفعتهم، ومنفعة مجتمعهم..
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس.
