دحــــــام
يوماً ما سألت أبي ماذا يعرف عنه، فأخبرني أنه لا يعرف عن أصله شيء وإنما يعرف أنه كان يطلق عليه إسم دحام ويكنى بأبي مشهور ولم يعط أبداً سره لأحد حول ما اسمه الحقيقي ومن أين أتى وما هي قصته.... الخ ، كان ضخم الجثة يلبس دائماً ثوباً أبيض نظيفاً مكوياً وشورة بيضاء نظيفة تماماً وكان أعمى يستعمل عصا في إرشاده على الطريق إلا أنه كان يتمتع بذكاء حاد، وكان يمشي وهو يتطلع إلى الأعلى دائماً مسترشداً بعصاه، وأنه كان يتردد على حوارة والمغير والشجرة وعمراوه، وأنه كان عفيف النفس، وذكي جداً، وقد روى لي أبي رواية وأيدته أمي في ذلك وهو أن عمي صالح كان يسمع عنه أنه يأكل كثيراً فقرر أن يعزمه عنده فطبخت له إمرأة عمي أم هاني فول بزيت وفقست عليه كمية كبيرة من البيض يكفي 10 زلم، وتركه عمي صالح متحججاً بعمل ما حتى يعطيه حريته في الأكل، فأكل دحام عدة لقم ثم نادى على حياة عمي صالح وطلب منه أن يرفع الزاد، فسأله عمي صالح ألم يعجبه الأكل فقال بالعكس أكلك طيب جداً ولكن هذا معياري، ويقولون أنه عندما كان يختلي بنفسه كان يأكل مثل الجمل وأن مروّته كانت هائلة.
روى لي أبي رواية ثانية، وهو أنه جلس معه في الديوان وقال له يا أبو مشهور أريد أن أسألك 30 سؤالاً لا تتضمن الاستفسار عن اسمك ومن أين اتيت وما هي قصتك فوافق، وبدأ أبوي بسؤاله، هل أتيت من أرض بعل أم سقي؟ فأجاب : سقي ، فسأله: هل ما زلتم تحرثون على الدابه أم على التراكتورات فصفن قليلاً ثم قال أنا منسحب من الشرط لأنك لو استمريت في أسئلتك فستصل إلى فضح سري وهو ما لا أريده.
ويستكمل أبوي أن الطريف بالموضوع أنه كان دائماً معتمراً شورته ويعقدها خلف رقبته حتى أن أحداً لم يرى أبداً شعره، ويعتقد أبوي أنه من منطقة الجزيرة بين سوريا والعراق (حيث كانت لهجته قريبة من أهل تلك المنطقة) ويبدو أنه كان مطلوباً بدم عند أهله فهرب منهم ولحقوه وصاوبوه في رقبته، الأمر الذي أفقده بصره وبقي في المنطقة يحوم بين القرى مخفياً قصته التي أصبحت مصدراً للفتوى، إلا أنه يقول أنه لم يعط سرة لأحد إلا لمحمد الرشيد الغرايبه (أبو قاسم محمد الرشيد) من المغير والذي بدوره لم يعطه لأحد وهو على قيد الحياة وربما مات ولم يبح به لأحد.
في مساء اليوم الذي عرفت فيه هذه المعلومات زارنا عبدالله الأبوقاسم من الشجرة (إبن عم أمي) وأخوه عوض وزوجاتهما، وحيث أنني عرفت أن دحام كان يتردد على الشجرة أكثر من حوارة سألته ماذا يعرف عنه فأخبرني أنه لا يعرف عن أصله أو فصله شيء إلا تخمينات قريبة مما قاله أبوي، حيث قال أنه ربما كان من منطقة الجزيرة بين سوريا والعراق بسبب لهجته ويبدو أنه كان شيخاً في عشيرته بدلالة عزة نفسه وتصرفاته في الدواوين وبيوت الناس، ويقول أنه قتل إثنين من أبناء عشيرته لثار بينهم فلحقوه وصاوبوه في رقبته من الخلف، فالتجأ إلى بيت من بيوت العرب (بيت شعر) الذين داووه فشفي من جراحه إلا أنه فقد بصرة.
يقول عبدالله أن مروته كانت هائلة ولم يكن أحد يستطيع أن يبطحه أرضاً، حتى أن محمود العبد الرحمن وكان هائل الجثة عظيم المروة تصارع مع دحام وقال له، يا أبو مشهور حتى لو بتطلع إضلاعي سوف أبطحك أرضاً، وتصارعا مثل الجمال، إلا أن دحام قال له يا أبو العبد أنت زلمه مليح ومن عشيرة مليحة ولا أريد أن أهينك ببطحك على الأرض وتوقف الصراع.
يقول عبدالله أيضاً أن دحام كان ذكياً جداً وأنه جلس معه في مضافة الحاج أبو قاسم الشبول (أبوه لعبدالله) مرة وأخذوا يتناقشون، ثم غاب عنه خمسة أو ست سنوات وركب عبدالله إحدى سيارات الأجرة قديماً (المرسيدس 190) وقال السلام عليكم فرد عليه دحام الذي كان في السيارة وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أنت عبدالله الأبوقاسم الشبول، ويتعجب عبدالله من ذكائه حيث ميز صوته بعد خمسة أو ست سنوات ومن جلسة واحدة. كما يضيف عبدالله أنه كان مرة راكباً في باص الشجرة إربد وكان دحام في الباص وعندما وصل دحام الى الكسحة ضرب الجرس وأوقف الباص ونزل الى حوارة ودون أن يسأل أي واحد عما إذا كان الباص في حوارة أم لا بل عرف ذلك من تلقاء نفسه (على كل حال كان ببور محمود العليان على الكسحة وربما كان يدق في تلك اللحظة وهو دلالة واضحة على الكسحة، مروان).
يتفق عبدالله مع أبي في نظافة هندام دحام ونظافة شورته البيضاء وعزة نفسه، ويضيف أنه كان دائماً يحمل الهيشي في جيب ثوبه وسفط الكمال (باكيت دخان كمال) في جيب ثوبه، فعندما يختلي بنفسه يدخن الهيشي بشراهة أما إذا جلس في مضافة أحد ما فإنه لا يدخن إلا من سفط الكمال، ويقول أنه كان لا يقبل المنية من أحد ولا يشحد وإنما دائماً مصروفه بجيبة ويدفع من جيبه الخاص، والطريف بالموضوع أنهم لا يعرفون أحداً كان يغسل له ثوبه أو شورته ويبدو أنه هو من كان يقوم بذلك، ويبدو أنه كان شيخاً في عشيرته وربما كان يتردد عليه أحد أبنائه أو أبناء عمومته ويعطيه مصروفه.
على كل حال أنا أتفق مع كل هذه المعلومات حيث أراها تعكس الإنطباع العام عن دحام الذي خبرته ورأيته عدة مرات من بعيد ولكنني لم أكن في سن تسمح لي بأن أجلس معه أو أكلمه. ولكنني سوف أبحث عن مزيد من المعلومات من أناس آخرين وأزودك بها. من ذكريات مروان غرايبه