معين غرايبه
أعراس الزمن الجميل
كان الحديث عن عرس (فلان) يسبق ذلك العرس بزمن طويل وكانت حالة الترقب والشوق والتحضيرات لهذا الحدث الذي طال انتظاره تتشابه في الشكل مع حالة الترقب السائده قبل موعد انطلاق كأس العالم لكرة القدم , فقد كان للعرس مدلولا اجتماعيا اكبر من كونه مؤسسه اجتماعيه هدفها البراغماتي في نهاية الأمر التناسل والتكاثر.
الصيف ايضا كان يعني الكثير فهو يجسد العطله المدرسيه وحصاد القمح وقلاعة العدس والمقاثي (ببطيخها وشمامها وقثائها وجعابيرها) وقدوم المغتربين وكذلك الاعراس .
تبدأ الابتسامه ترتسم على وجوهنا عندما كنا نرى حبل اللمبات قد نصب امام بيت العريس المفترض ثم نلحظ حركه غير اعتياديه تسيطر على ساحة (التعليله) وفي تلك اللحظه فقط نتنكر للشمس وحريتها طالبين منها ان تغرب ليحل الليل والذي سيتخلى عن سكونه في أيام التعليله على أن يعاود السكون في ذلك الليل الذي سيعقب نهار زفة العريس نفسه.
تبدأ مراسم التعليله باطلاق نار كثيف مصدره (كلاشينكوف) غير مرخص فلا يخطر ببالك ان الحرب قد اندلعت او ان هناك مطارده وتبادل لاطلاق النار بين قوات الأمن ومطلوبين فارين من وجه العداله كما هو الان فالعرس لم يكن حدثا عارضا ولم يكن يبدو وكأنه أمر دبر بليل .
أم العريس تبعث ببطاقة دعوه للحضور الى ساحة التعليله عبر (مهاهاتها) وكأنها أطلقت صرخة (وامعتصماه) فيلبي الجميع النداء وتبدأ الناس بذكورهم واناثهم بالتقاطر والتجمع في ساحة الفرح والتي ستستضيف الناس لبضعة أيام وليس يوما يتيما كما هو الان.
صوت شبابة (علي الباشا) او (عمر السبروجي) بالاضافه لصوت الدربكه (محمد ملكاوي) وصوت مغني الدبكه تتناغم بشكل يخلو من الملل مع ضربات اقدام الدبيكه والارض ترتجف تحتهم فتثير الغبار مما يحدو بالعريس نفسه بان يحضر وطرفا البشكير ما يزالا يتدليان على صدره فيرش ساحة العمليات بالماء لاضافة قوم من التماسك لذرات التراب فتمنع حدوث الغبار ولو بشكل مؤقت.
ابريق الشاي الضخم المصنوع من الألومنيوم كان يظهر فجأه بالاعراس ليسقي الحضور على مرات متتاليه وما أن ننهي كاسة الشاي اللذيذه حتى نضعها بالدلو الذي كان بالقرب من الطاوله التي تحمل على سطحها علب السجائر المتنوعه بالاضافه للقهوه العربيه و شربة ماء زجاجيه مزركشه وكذلك كاساتها فتثير فيك العطش!
على الجانب الاخر من دبكة الشباب والرجال كان العنصر النسائي لا يقل نشاطا عن الذكور فدبكتهم كانت تعبر عن حاله غير عاديه من الفرح والنشاط وهن يغنين:( من وادي لوادي واحنا مشينا.....ومن بيت الاجواد احنا خذينا) ثم تطلق احدى الحاضرات وهي غالبا أم او أخت العريس زغروده يتبعها اطلاق نار كثيف مصدره اسلحة الرجال الملتفين حول الدبكه أو ذلك الذي يعتلي سطح المنزل ليفرغ حمولة سلاحه .
الرجال الكبار وجوفيتهم واغنية (يا بو رشيد قلبنا اليوم مجروح) كانت لا تغيب عن الاعراس بل انها اصبحت ركنا اساسيا في فعاليات العرس والتي قد جار عليها الزمان الان فقبعت في ذاكرة الزمن الجميل دون ان يكون لها دور في الحاضر والمستقبل !
يخترق احد الحضور دائرة الدبكه الكبيره حتى يشكل مركز هذه الدائره فيظن الناس انه سيحل محل قائد الدبكه الا انه ما يلبث ان يرفع سلاحه الفردي مطلقا اعيرته الناريه فيدب الحماس في الاطفال الصغار الذين انقضوا على ذلك الفشك النحاسي المترامي والذي كان يتساقط من السلاح بغزاره فيترافق معه سقوط (الملبس) على رؤوس الحاضرين! طبعا هذا لا يعني اني اؤيد اطلاق النار في الاعراس الا انني احاول وصف الحال لا اكثر!
كانت التعليله تستمر لثلاثة ايام او حتى اكثر ليكون ختامها مسك يوم الخميس وكنا نصف تعليلة الخميس بقولنا (التعليله اليوم حاميه) وفي ليلة الخميس يتم (الحنه) ويتم فيها اراقة دماء الخرفان لتستقر لحومها على مناسف يوم الجمعه في طعام اسهم فيه الاقارب والاحباب فمنهم من احضر الارز ومنهم من تبرع بالجميد ومنهم من تبرع بجهده في اجواء تكافل وتعاضد اجتماعي كانت سمة بارزه في ذلك الزمان.
يوم الجمعه كان القاصي والداني على علم بفعاليات ذلك العرس من مناسف تخرج تباعا من بيت اهل العريس تتزامن مع الزغاريد واطلاق النار ثم موكب العرس ويسمى (الفارده) والتي ستتجه لطلب الاذن من ولي امر العروس بانتقال العروس لعشها الجديد وكذلك (عباءة الخال) وهو مبلغ مادي يدفعه العريس لخال العروس وهو عادة الخال الاكبر الا ان العاده جرت بان يرفض الخال المبلغ ويقول (عباءتكم وصلت) ثم يقدم هذا الخال (نقوط) للعروس في لفته اخلاقيه جميله تمثل اصالة هذا المجتمع. اما (الفارده) فكان معظم الناس يستأجرون سيارات المرسيدس العموميه القديمه فتكتظ سيارة (ابو رماح) او (علي الرومي) وغيرهم بالعائلات وهو يغنون اغاني الافراح وزوامير السيارات لا تنقطع في اجواء جميله لا تخلو من (الازعاج)!
اما ( المطبقيات) فكانت عباره عن خمس حبات (ملبس على لوز=بيض حمام) توضع في كاسه او تحفه او سكريه او منفظة سجائر زجاجيه او فخاريه يغلفها (شبر) ابيض وكأنه قطعه من فستان العروس الابيض توزع على الحاضرين في اجواء تنافسيه للحصول على اكبر عدد منها وهي عادة تحفظ للذكرى في البيوت وما زلنا نحتفظ ببعضها الى يومنا الحاضر.
زفة العريس والقاء التوفي والارز فوق رؤوس المشاركين في الزفه ثم استضافة جيران العريس للزفه او احد اقاربه كان تقليدا شائعا وفي بعض الاحيان كان العريس يغير ملابسه ويجهز في بيت مستضيف الزفه ونحن ما نزال في تلك الاجواء الصاخبه التي تعبر عن حالة فرح حقيقيه حتى يستقر العريس مع عروسه في عش الزوجيه ايذانا بانتهاء الاجواء الاحتفاليه والتي سيحل محلها اجواء المباركه بالزواج والنواقيط التي توضع في سلة الملبس والتوفي والتي تقدمه العروس للمهنئين.
كان الزواج طقسا احتفاليا وفرحا حقيقيا يعم الناس جميعا وكانت الايادي متكاتفه وكان الزواج له قدسيه خاصه لانه بزمن خاص ! وكانت نتائج معظم حالات الزواج تبشر بالخير اما الان فان مراسم الزواج وطقوسه تتم وكأنها (هم ثقيل) على قلوب اصحابه وكذلك المشاركين أو كأنه ( اجراء رسمي في دائره حكوميه تنخر فيها البيروقراطيه) فالصاله تستقبل المحتفلين لساعتين وكأنها مئة سنه مما تعدون على اهل العرس وكذلك المدعوين او حتى اصحاب الصاله والعاملين فيها في (شبه حفله) بطلها (الدي جي) والذي حل مكان الشبابه والمجوز والطبله (الدربكه) بالاضافه الى قطعه (الجاتو المزيف) وكذلك المشروب !
ولتفسير التشوه الحاصل في طقوس العرس اقول ان الحياه قد طغت في تعقيداتها ومشاكلها وأصبحت الأخلاق عمله نادره بالاضافه الى أن نكهة العرس وكذلك الشوق و اللهفه ( لأي شيء) قد خفت بريقهم الان في زمن اصبح فيه الفرح شذوذا و تغريدا خارج السرب , هذا اذا ما استمر ذلك الزواج ولم ينتهي بكلمة كارثيه من المؤسف جدا لو تكررت ثلاثا لا سمح الله
