معين غرايبه
6 مارس، الساعة 12:40 ص ·ليلة شتاء مظلمه من ليالي الزمن الجميل !
ما زلت اسبح في بحر الذكريات ولكني لم اغرق بعد! وما زلت احلق في فضاء الماضي ولكني اعاود الهبوط على ارض الحاضر لانظر الى محيط المستقبل.
انها ليله شتاء تعانقت فيها السحب وسدت الافق وعلا صفير الريح فوق كل صوت وانهمرت السماء بالدموع فاشتاقت لدموعها الارض كما الفلاح.
البرق والرعد يتناوبات على مقارعة حاستي البصر والسمع باسلوب ديناميكي لا يخطئ الترتيب.
صوت الماء المنسكب من خلال المزراب والصوت الناجم عن ارتطام حبات المطر بالواح الزينكو كان يقوم بدور نشرة الارصاد الجويه فيغنينا عن سماع (علي عبنده) و(محمد البطاينه).
مدفأة الديزل التي ترتبط بالعالم الخارجي من خلال (البواري) كانت وسيلة التدفئه المتاحه الا انها تقوم بمهام اخرى مثل:شوي الكستناء والبطاطا وتسخين ابريق الشاي والخبز ولا ننسى كذلك تحميص بزر البطيخ الذي تم (تبزيره) من المقثاه في الصيف المنصرم ووضع على السده لمثل هذه الليله ! كانت النار تجمعنا ولا تفرقنا فكانت بحق (فاكهة الشتاء).
كان صوت الهواء الذي يدخل المدفأه عبر البواري محدثا عاصفه صغيره فتتوهج النار بداخل المدفأه الدمشقيه يبعث فينا شعورا بان فصل الشتاء ما يزال يخفي الكثير من المفاجأت التي لم تتنتظر طويلا فها هو التيار الكهربائي قد انقطع وحل ظلام دامس اركان البيت اللهم الا من الضوء المنبعث من باب المدفأه البلاستيكي الشفاف فتقوم والدتي بتجهيز مصباح الكاز والذي كان يجهز مسبقا لحالات انقطاع التيار الكهربائي وكذلك الشموع التي كانت تقوم بدور الضوء المتنقل من غرفه لاخرى او الى المطبخ والحمام ولا ننسى كذلك اننا كنا نلهوا بقطرات الشمع المسال على حافة الشمعه الاسطوانيه لتكون وجهتة النهائيه الوعاء الذي يحتظن الشمعه او كرسي الخشب الصغير الذي كنا نغرس فيه الشموع !
الظلام والصمت كانا ابطال الحديث في تلك الليله حيث تتجلى ذاكرة ابي وامي (رحمهما الله) فتعود بهم الى زمن (اللاكهرباء) واحاديث (الثلجه الكبيره) وقصص ايام زمان والتي لا تخلو من قصص الرعب !
كان ابي يصف لنا حقبتهم القاسيه والتي كان الظلام عنوانها ويقارنها بحياة ما بعد اختراع الكهرباء مستلهما ذلك من وحي انقطاع التيار الكهربائي في تلك الليله كما يحاول والدي اقناعنا باننا (اي الاولاد) بالف نعمه مقارنه بحياة جيلهم الا انه كان لا ينكر بساطة العيش وقلة التعقيدات في زمنهم.
كنا نسأل امي ان تحكي لنا من قصص ايام زمان وللاسف كان ما في جعبة امي الكثير من القصص المخيفه عن الغوله والبيوت (المسكونه) وقصة (حسن وحسين والغوله) و(بقرة المدينه) و(المارد) وقصة الغوله التي ركبت على الفرس خلف الفارس ليكتشف وهو يقود حصانه انها غوله وليست عجوز وقصص عن البيوت القديمه (العقد والليوان) وسماع اصوات لارواح فيها وغير ذلك وعندما نسألها عن جدية هذه القصص تجزم امي انها حقيقيه بقولها:(حلفوا انهم شافوهم)! هلا هلا هاي القصص طلعت مزبوطه !
يبدأ العقل بنسج كل ما هو مخيف ومرعب ويساعده في ذلك الظلام وصوت الريح والرعد ولمعان البرق بالاضافه الى سن الطفوله والذي كان يتقبل ويصدق اي شيء دونما تحليل ومحاكمه لصحة ما ورد من عدمه ثم يقطع هذا الفلم المرعب صوت والدي وهو يجلجل:معين روح عبي ابريق الشاي من مية المزراب اللي بره عشان نشرب كاسة شاي! بالله شو؟! بعد كل هالسوالف واطلع بره ؟! اتحامل على نفسي واحاول التغلب على شعور الخوف فاخرج وانا اغني لاحداث جلبه تؤنسني في وحشة الليل ولكي يطغى صوتي على صوت الرعد والريح فأملأ الابريق على عجل واعود للمكان ثانية فاحس بنوع من الطمأنينه.
الشاي من ماء المزراب كان له طعم اخر في الشتاء فقد كان هذا المشروب يعطيك احساس بان الطبيعه ما زالت كريمه بعطائها ونقائها ويقدم دليلا على عذرية الطبيعه في ذلك الوقت.
كانت الاحاديث ممتعه بالرغم من اختلاطها بالرعب الا ان فكرة الاسره الواحده التي تلتم وتتجمع كان بحد ذاته امرا عظيما نفتقده الان.
كانت الومضه من النيون ثم اختفاؤها فرحه لا توصف فالومضه دليل ان ورشة شركة الكهرباء قد وصلت (الكسحه) وهم يعملون على اصلاح العطل الكهربائي في مولد الكهرباء اسفل شمال الطريق العام والذي كان عادة ما يتكرر نتيجة عدم تطور مولدات الكهرباء وكذلك بدائية اليات كشف واصلاح الاعطال الكهربائيه مقارنه بالتقدم الهائل الذي يحصل الان في مجال الكهرباء, ثم ما نلبث ان نسمع صوت (طقطقه) مصدرها (ستراتر النيون) وكانه صوت فراشه تلهو على (النيون) فيضيء المكان الا ان الشموع ومصباح الكاز يظللوا مشتعلين لفتره حتى نتيقن ان الكهرباء عادت ولن تنقطع فنشعر بفرح عارم يخفف علينا قساوة الشتاء وبرده القارس حتى ولو لم تقلع السماء ولم تبلع الارض ماءها.
لم تكن السهوله عنوانا لتلك الفتره ولكن البساطه و(طعم الفرح حلو المذاق) كانت عنوانه وبقدر الصعوبه والمعاناه يكون حجم الفرح !والطعام الذي يأكله الفلاح بعد ان ينتهي من فلاحة الارض الشاقه وعرقه يتصبب لهو الذ واشهى من اي طعام اخر حتى لو كان حبة طماطم ورغيف خبز! واما الاديب الروسي الكبير (مكسيم غوركي) فقد عبر عن تلك الفكره بمقولته الشهيره: (عندما يكون كل شيء سهلا يصبح المرء غبيا بسرعة)!!!