شقائق النعمان
هاشم غرايبة
4/19/2011
ثمة أرض أخرى أجمل، وأعتقد أنني لكنتُ فضّلتُها، ولكني في حوارة وُلدت.. رائحة حليب وعشب. رائحة زيتون وخبز. رائحة النعناع والزعتر المخبأة في ثوب أمي.. هذا هو الوطن: صوت أذان الفجر. وزقزقة العصافير. وتفتح شقائق النعمان، وشقعة المزراب. وصوت جدي: كان ياما كان..
كان يا ما كان.. كان جدي قاصا ماهرا، نقلني دون مقدمات إلى عالم شاسع مليء بالطير والجن والحيوان والشجر والجبل والرمل والغيلان والملائكة والشياطين والناس والنار والماء وبريق الذهب!
ليس مهما أن يكون جدي قال ذلك فعلا لكنه علمني أن كل الأشياء لها أرواح وأقوال وأفعال وروائح وظلال تتمازج وتفترق متجلية ومجلية وحدة الكون وسر الوجود.
جدي دلني على مصباح علاء الدين: طلب مني ذات ليلة إحضار السراج الذي ترقص شعلته في عمق زجاج النافذة، فتحت النافذة فاختفى السراج.. بعد عدة محاولات رفعت السراج المعلق على الحائط فظهرت معه في عتمة النافذة. مسح على راسي، وقال ستنال ما تريد. وها أنذا أفعل. ما لا أحققه على أرض الواقع، أمتح صورته من عتمة النافذة إلى بياض الورق، فيصير واقعاً!
حوارة علمتني أن الخبرة أهم من الحكمة. الخبرة تساعدك على تقشير الراهن لتراهن على الآتي، أما الحكمة فهي معلقة في الفراغ حيث لا زمان ولا مكان. إنها فائض الغرور البشري..
أدّعي بأن حوّاره وجدي هما مصدر إلهامي الأول.. هناك كانت السماء قريبة، وبابها سهل الانفتاح في ليلة القدر وفي غير ليلة القدر، وكان الناس الصالحون والطالحون قريبين من السماء دون تبجح.. كانت الدروب أوسع، والعتبات أجمل، والفضاء أرحب، وروائح الأشياء متباهية باستقلالها.
حوّاره علمتني (الندّية) دون استعلاء على ضعيف، ولا خنوع لقوي. روحي فخورة بخسارات العمر التي ربحتها في الندية مع بسطاء الناس والمتجبرين على حد سواء. وجسدي مليء بجراح الطفولة التي منحتني إياها الندية مع الكائنات: المطر والبرق والورد والحصان والجبل والشجر والحجر.. كائنات مثلي عشت معها في وحدة صراع واحترام متبادل..
حوارة مكان الغولة القاطنة في مغارة «الحبوبة، ومقام الخضر المحاط بالرهبة والغموض. المشنشل بالأماني السرية على شكل شرائط خضراء.
حوّارتي أستنشقها مع روائح الكائنات، وأعرف روحها في الأفنان الدقيقة لأشجار الزيتون، وفي رائحة الطين، وطراوة غزلان الندى التي أصادفها أينما اتجهت الذاكرة.
أتذكر صخرة حارقة على حافة البركة الكبيرة، ونساء يغسلن الصوف على الحافة، وأسراب طيور أبي سعد المهاجرة تحوم في الأفق، ودواباً تلوح أذنابها بغبطة، وهواء ملفحاً بالشمس وباعثاً روائح اللبن والخزامى، ومرجعاً صدى زعيق الغربان، وزقزقة العصافير وهي تشكر رازقها..
أدخل (البيت الكبير)-وهذا هو اسم الغرفة الواسعة التي ولد ومات فيها جدّي-أتنفس رطوبة المكان العتيقة منادياً: جمّال ابن جمّال ، سرقوا لك جمالك ، يرد جدي بصوته الأجش: سيفي تحت رأسي ما بسمع كلامك.
كان ركوب الجمل ، والصعود إلى السرير، وتخيّل حكايا جدّي، من المهارات الصعبة علي. كنا صديقين: نتشاجر ونتصالح ونتخيل أشياء طريفة نقصها على بعضنا بعضاً باستمتاع وثقة: حدثني عن (عوج بن عنق) الذي يتناول الحوت الضخم من قرار البحر الشاسع، ويرفعه إلى الفضاء الواسع ، فيشويه على قرص الشمس اللاهب ، ويأكله!... ثم يلملم السحاب بقبضته، فيعصره، ويشرب..
صديقي أحب السنونو المواظب على زيارة البيت الكبير. يقول إن هذا الطير مبارك، لأنه أطفأ نار سيدنا إبراهيم عليه السلام، ولا يملّ تكرار القصة. يدعي أن السنونو يحضر له الحلوى ، ويخبئها في سريره. البحث عن هذه الهدايا ، يعني معركة مع السرير العتيق ومـع جـدي، فأنزعـج من صرير الحديد ، ومن مداعبـات جـدي ، خاصـة لعبـة (الواوي) الذي يأكل آذان الأولاد المشاكسـين، فأحـس فمه الخالي من الأسنان أملسَ ، ولعابه دبقاً على أذني، فأغضب وأضربه ، ويضربني ، ويعلو صياحنا.. ثم يسمح لي بالوصول إلى حبات الحامض حلو أو قطع (الحلقوم) ، فأهدأ، ونتصالح ، ونقتسم الغنائم.
تجولت في البيت الكبير، قلّبت الأشياء، وأنا أستحضر صوراً مختلطة بين الماضي والحاضر.. وفجأة انتصبت أمامي إحدى قوائم سرير جدي ، سحبتها من بين الركام ،فأحدثت ضجة قبل أن تنتصب أمامي بزركشتها التي أحفظها جيداً رغم الصدأ. أمسكت الرأس النحاسي المغطى بالجنزارة، فركته فاستدار ، سحبته فانفتح لب العمود، قلبته وأنا أتفحصه... «تجار الأنتيكا سيدفعون ثمناً مجزياً..» و.... كرّت أمامي حبات حامض حلو متحجرة، ودحنون جاف ، فراشات مهشمة، كرارات زجاجية ، كرارات خشبية ، و... ريشة سنونو مغبرة.. من بين الأتربة الناعمة رفعت ريشة السنونو ، نفخت عليها فاستجابت، طار الغبار عنها، وعادت نظيفة.. ابتسمت. فرحت. رقصت في عتمة البيت الكبير، وأحسست أني قادر على احتجاز السحاب لأشرب منه... ركزت الريشة خلف أذني باعتزاز، وقلت بحماس: «سأرمم البيت الكبير، وأنعم بظل الدالية الهرمة، وأستمتع بأسراب السنونو، وأعيد أيام الدحنون ولعبة بتحبني ما بتحبني مع بتلات القحوان، وأشوي الحوت على قرص الشمس»، و..