حياتنا!.. أيّ حياة؟
أخبرني جدي وكنت مابين السادسة والسابعة من عمري آنذاك: أن هذا العالم لن يبقى على حاله التي هو عليها الآن، كان يحدثني ويظنني أعي ما يقوله لي، هو يمسكني من ذراعي لأبقى قريبا إليه لأسمع منه ما يريد أن يعلمني إياه رغم صغر سنّي، كان الأطفال أبناء جيلي يلعبون بالقرب من المكان الذي أقف فيه مع جدي رغم أنفي.
أتذكّر أنه قال لي: إن هذه الأمة لن تبقى بهذه الصورة التي هي عليها، ستتغير الأجيال وتغيِّر العادات والتقاليد.. وماذا يهمني أنا من هذا الحديث؟! ببراءة الأطفال أسأل نفسي وأردّ وأقول لجدي يرحمه الله تعالى: طيب طيب، يبتسم ابتسامته الجادة التي كان معروفا بها، وكان يعرف أنّ أحب أحفاده إليه لا يهمه ما يسمعه منه، كان يعرف أن حفيده يتمنى أن تتركه يد جده التي تمنعه من الذهاب للعب مع أولئك الأولاد الذين يدور الحديث عنهم.. وعني أيضا، صدفة وصلتْ الكرة القماشية تجاهنا وبسرعة ركضت تجاهها لأردها لمن يلعبون بها.. وجدت نفسي حراً من يد جدي، وذهبت لألعب، ولسوء حظي وقتها أن خرج أحد أقاربنا الذي نلعب غرب بيته يصرخ علينا ويطردنا من المكان الذي هو ملعب طفولتنا، ففرّ الجميع كالعادة بعد سماع صوته الذي كنا نخافه، ولحظة هربي لجأت ثاتية لجدي ليحميني ممن كان يكتفي بصراخه الذي كان يرعبنا به، فعادت لجدي ابتسامته بعودتي إليه، فوجّه سؤاله لي: ماذا علـّمك أستاذك اليوم؟
فنظرت إليه مبادلا إياه ابتسامته لكنها ليست بنفس الجودة والجدّية: راس روس وطلب من كل الصف أن نكتبهما في دفاترنا، ثم سألنا من منكم يحب أن يكتبهما على اللوح؟
فقاطعني جدي: هل كتبتهما أنت؟ لا يا جدي، رفعت إصبعي ولم يخرجني الأستاذ لكتابتهما، لقد اختار برهان، وصفقنا له بعدما كتبهما ورسمهما أيضا.
طيب تعال واكتبهما لي، أنا سأصفق لك وأعطيك جائزة، فقبلت طلبه لأنني واثق من نفسي ومن قدرتي في الإملاء، أخذني من خارج البوابة الجنوبية لفناء الدار إلى ( الصيباطة ) التي يسهر عليها بليالي الصيف بمعية الكثيرين من الأقارب والأصدقاء، أجلسني بجانبه ثم نادى على أصغر أعمامي ليأتيه بورقة صغيرة، ثم أخرج قلمه الذي يسجل به كل معلوماته التجارية والزراعية وأوزان الحبوب التي يتاجر بها وأسماء أصحابها.
بسرعة وكما كنت متعوّدا حينذاك تممدت نائما على بطني وأمسكت القلم لأكتب ( راس روس )، فكتبتهما كتابة صحيحة إذ رأيت ابتسامته مرة أخرى، لكني كنت منتظرا جائزته التي وعدني بها، هي التعريفة، ولكنها تساوي مبلغا في ذلك الوقت، انتظرته ريثما يمد يده إلى جيبه ويمنحني إياها، ما زال يبتسم ابتسامته، بقيتُ صامتا خجولا لا أجرؤ على طلبها، حتى سألني هو: ألم أعدك بجائزة؟ فقلت: بلى، فقال: سأعطيكها بعدما تسمع وتفهم ما سأقوله لك.
حسنا سأفهم، فقال: هذه الأجيال وأنت منها ستتبدل وتتغير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا أقول لك هذا علما بالغيب؛ بل هو استنتاج استنتجته من حياتي، فحينما كنت بسنّك كانت الحياة بعاداتها وتقاليدها أفضل مما هي عليه الآن، وطيلة عمري أراها تزداد نحو الأسوأ، فأنت الآن تخجل أن تطلب مني ما وعدتك به، سيأتي وقت أن يطلب من هم في عمرك بأسلوب لا حياء فيه ولا خجل، ومتى ذهب الخجل اقرأ على الأمة السلام.
ماذا أقول لجدي الذي يعلمني وأنا أنتظر التعريقة لأشتري المخشرم أو الفيصلية أو نوع آخر من الحلويات غير المعروف هذا الزمان كالكعكبان، الحلو المذاق المخطط عموديا باللونين الأحمر والأبيض.
ما أحلاها ابتسامة جدي! تلك الابتسامة الجادة التي يشهد له بها الجميع، هو من أبرز وجوه العشيرة، طيب الذكر بشهادتهم وليس بشهادتي، ولكني كطفل صغير سأشهد له كما يشهد الآخرون، كان فاضلا ولا يعلم الغيب ولكنه أخبرني قبل أربعين سنة عن التغير الذي نعيشه بالفعل بعيدين عن الأصالة والقيم الحميدة التي كان نسيجها التعاون والصدق بالتعامل بين الجميع.
هل بقي ما أقوله؟ لا شك أن الصورة واضحة جدا رغم عدم علمه بالفضائيات والإنترنت والهواتف المحمولة التي جعلت الحياة تتسارع بذلك التغير الرهيب الذي توقـّعه جدي يرحمه الله.
جواد حمدي غرايبه/ حوارة