زاوية هاشم غرايبةSunday, September 05, 2010
أيلول.. رائحة المدارس، وأول الغيث.
(عندي في رأسي أفكار.. عندي في جيبي مسمار)
هذا مطلع «محفوظة» عنوانها « النجار» في منهاج الابتدائي مطلع الستينات. لا أذكر اسم الشاعر ولكن أذكر أننا اختلفنا هل هو نجار طوبار أم نجار أثاث.. وكنا نتفكه بقراءة البيت معكوساً: عندي في راسي مسمار.. عندي في جيبي بيكار.
الجيل الذي تلا جيلي كان ينشد من شعر سليمان العيسى..
عمي منصور النجار ..يضحك في يده المنشار
يعمل يعمل وهو يغني.. في فمه دوما أشعار
قلت لعمي.عندي لعبة.. اصنع لي بيتا للعبة
هز الرأس و قال.. أنا أهوى الأطفال
بعد قليل رحت إليه.. شيء حلو بين يديه
سواه عمي منصور.. أحلى من بيت العصفور
كنا نحن ومناهجنا المدرسية نتاج بيئتنا بالفطرة.. نزرع ندرس نحفظ نكتب، ونغني للنجار وللغيث.. نخرج في آخر أيلول نستسقي السماء: (يا ام الغيث غيثنا.. واسقي بالغيث وادينا).. (يا الله الغيث ياربي.. تسقي زريعنا الغربي).. ونردد بفخر نشيد قريتنا الخاص بالمطر:
يالله يا معبود يا عالمٍ بالخفيات.. يا رازق الطير على قدّ عددها
تشتي ع حوارة بروق وسحابات.. تسقي عيالها وكل من وردها
وتسيّح السمن بقدورها خيرات.. وتجبر خواطر من راد سعدها
اليوم.. (عندي في راسي مسمار.. عندي في جيبي أفكار)!!!
أهرب من آلة الزمن الـ (ما بعد حداثي) إلى زمن عمي منصور النجار..
كثيرة هي الحرف الشعبيةُ التي كانت معروفةً في الريف والبادية، منها على سبيل المثال لا الحصر: مهنة الحائك والنجار والحداد والفرواتي ومبيض الأواني النحاسية، وغيرها.. هذه المهن قلّ ما تجتمع كلُّها في قرية واحدة، بل كان ظهور واحدة منها في قرية ما كاف لتقديم الخدمات لفلاحي وبدو المنطقة حولها، فقد تختصُّ قريةٌ من القرى بواحدة من المهن أو أكثر.. وهذا التنوعُ خاضعٌ لقوانين الطبيعة على الأغلب أكثرُ من قانون العرض والطلب، فالقريةَ التي حولها أشجارٌ حرجية تكون مؤهلةً للتخصص في إنتاج الفحم، وإنتاج الأدوات الزراعية كالمحراث اليدوي، والنير، والعربة، ولوح الدراس، والمذراة، والرّحت.. ومن الطبيعي أن يظهر في هذه البيئةِ نجارون مهرة مثل (ابن معيوفة) النجار من عرجان.. لم نكن نقول أين حانوت النجار، ولكن نسأل أين بيت ابن معيوفة النجار؟
«كان في رأسه أفكار لا مسمار».. يربط القطع الخشبية بأسلوب « التعشيق»؛ أي أنه كان يجعل حواف القطع تتداخل مع بعضها بعضا.. كان يصنع أبواب البيوت الجميلة، وظرفات الشبابيك الطويلة، وصندوق الملابس المطعم بالصدف ويسمّى « السّبَتْ»، والنملية، والسُلّم، والكرسي، والشّدَاد.. وقلما كان يستعمل المسامير المعدنية!
من أهم منتجات ابن معيوفة: مهد الطفل الصغير، والأدوات المنزلية المصنوعة من الخشب كالمهباش والملاعق الخشبية والصحون الخشبية التي كانت تسمى «الباطية» وكان يتفنن في نحت «الشفشق»..
سرير الطفل كان يرتكز إلى قائمتين خشبيتين على شكل قوس من الأسفل، ليسهل على الأم هزّ السرير بقدمها فيما هي تعجن العجين، أو تعدّ الطعام، أو تخيط الملابس، وتهدهد الطفل مرددة:
يالله يا معبود يا عالمٍ بالخفيات.. يا رازق الطير على قدّ عددها
تشتي ع حوارة بروق وسحابات.. تسقي عيالها وكل من وردها
وتسيّح السمن بقدورها بركات.. وتجبر خواطر من راد سعدها
كان التكامل والتكافل عفوياً بين الأطفال والمناهج، بين الحرفيين والمزارعين، كما بين الناس ومعبودها، كما بين أمهاتنا والسماء التي كانت تجود علينا «ببروق وسحابات، تسقي عيالها وكل من وردها».