الكرسي
زاوية هاشم غرايبةWednesday, August 25, 2010
كان اسمه الكرسي. بأل التعريف. لأنه لم يكن يوجد كرسي غيره في دارنا الكبيرة..
إنه كرسي عمي سليم: كرسي متواضع، وبسيط جدا، لا يتجاوز ارتفاعه ربع متر، وسطحه مستطيل بمساحة 20/30 سم.
لتعدد وظائفه، ولكثرة ما مر عليه من أشياء. فقد كان سطحه مجور قليلا، وقد اكتسب لوناً دبسياً لامعاً، فقد كان رغم حجمه الصغير يقدم خدمات واسعة تنوء بحملها الكراسي التي يشقى أصحابها بخدمتها اليوم..
في ليالي الشتاء كان صاحبه وشريكه في "التعليلة".. يضع عليه مخدة الصوف، ويغز كوعه عليه، ويضع راحته تحت رأسه، ويسرد الحكايا.
هذا الكرسي الصغير ذاته، كان يستعمل "مفرمة": يفرم عليه عمي تبغه، ويقطع عليه اللحمة في عيد الأضحى، وكانت عمتي عليا تنقي عليه العدس، وتفرم عليه الخبيزة، وتقطع البطاطا.. أما البصل فكانت تفرمه بطريقة فذة لكنها انقرضت: تمسك البصلة بيد، وتضربها ضربات سريعة قوية بالسكين، ثم تفرم الجزء الذي تشقق، وتعيد الكرة حتى "القمعة".
وكان الكرسي يتنقل مع عمي سليم حسب المواسم، فيجلس عليه أمام الدار في الظل أيام الصيف، ويجلس عليه مسندا ظهره للحائط الشمالي مستمتعا بدفء الشمس في الشتاء.. وكان يستعين بالكرسي ليقف عليه، ويتناول شيئا عن رف "الشاشية"، أو من فوق "الكواير".
كما كان يستعمل الكرسي للاستحمام أيضا: يضع لقن الغسيل بعتبة البيت، وسطل الماء الساخن والمغرفة بجانبه، ثم يأتي بالكرسي "ما غيره" يضعه باللقن ويخلع ملابسه عليه ثم يجلس فوقها ويستحم.. وحين كان يحلق ذقنه، كان يقلب الكرسي على جنبه، ويركز المرآة على خشبته..
أحياناً يصير هذا الكرسي مكتبا، يتربع عمي أمامه، ويخط عليه رسالة لولده المغترب، أو يفرد عليه "قواشين" الأرض، ويراجعها، أو يوقع عليه عقد بيع، أو صك ضمان مع طرف ثان.
و في رمضان تحديدا ترى عمي سليم يجلل الكرسي "بالمصلوة"، ويضعه أمامه، ثم يفتح المصحف الشريف فوقه، ويتلوا القرآن، وهو يهز جذعه إلى الأمام وإلى الخلف برتابة.
ولما (ختير) عمي صار الكرسي ملازما له دائماً، يتوسده. يرفع عليه قدميه المتعبتين يساعده على النهوض، يسجد عليه عندما يصلي جالساً.. ، وفي ليل المسنين الطويل كان يتكئ عليه ويتسليان بالعتابا حتى يغفو أحدهما..
رحمة الله على عمي سليم، كان صاحب كرسي!