ذكريات رمضانية

ذكريات رمضانية زاوية هاشم غرايبةTuesday, August 17, 2010 رمضان كريم ، رمضان يعني التجدد والتجديد، رمضان يكسر روتين أيام السنة، لرمضان بهجته الخاصة، وأصواته الشجية، وروائحه القوية.. حتى الماء نشم رائحته المنعشة. نحب رمضان.. ولأننا نحبه ندقق في ملامحه الجديدة فنلاحظ: كان قمر رمضان يؤنس ليالي الصائمين ويزيد السماء بهاء.. صار هلالا بلاستيكياً يومض على الشبابيك والشرفات، ونسينا قمر السماء! غابت عادة أصيلة فيها كرامة وتكريم للمدعوين وهي: أن يصطحب رب البيت ناسا ليفطروا على مائدته البيتية في رمضان حتى لو كان الطعام عدس وبصل.. موضة الموائد الرمضانية في الشوارع تكرس التعالي لأنها معزل للفقراء، وتشهيرا بالمحتاجين، حتى لو كانت المائدة عامرة، والطعام فاخراً. أهم ما يميز مائدة رمضان عندنا العصائر والشوربة والسلطة .. والقطايف ملكة الحلوى الرمضانية دون منازع.. ولكل قطر عربي وشعب من الشعوب الإسلامية طبقه الخاص الذي يتكرر كل يوم على مائدة الإفطار.. كل المسلين يتشاركون في حبات التمر، ويظلّ الماء سيد لحظة الإفطار في كل مكان. * القمر الدين! كان حضوره الرمضاني يوازي حضور القطايف، وكان مريس القمر الدين يغمّس بالخبز، وكان طبقا لذيذا يواظب الحضور على مائدة السحور، فينعش، ويحمي من العطش.. صار القمر الدين مجرد عصير بين عصائر كثيرة تفوقه حضوراً على مائدة الفطور. *"دعوة العنايا".. والمقصود بها صلة الرحم من خلال دعوة الأخوات والعمات والخالات لمأدبة إفطار رمضانية.. كانت هذه الوليمة يوم عيد عائلي عندما تكتظ الدار بالمدعوات وبناتهن وأحفادهن.. تحولت هذه الدعوة الجماعية إلى دعوات بالتجزئة، ففقدت اللمة بهجتها.. عند بعض الناس استبدلت "عزومة العنايا" بإرسال مكونات وجبة الطعام ناشفة إلى بيت "العنيّة": جوز صيصان، ورطل رز، وقنينة زيت.. هاي صارت شحدة أم صلة رحم!! *غاب مدفع الإفطار، وطبل المسحراتي. ولم نعد نسمع نداءات الجيران على بعضهم بعضا وقت السحور.. صارت نغمات الجوال سيدة الساعات الرمضانية. *كأن الوقت خصم.. في رمضان تشيع عبارات مثل: ( تقطيع الوقت) و(تضييع الوقت) و(تمضية الوقت).. وغيرها من الاقتراحات المشابهة التي تدعم الشعار الكبير (سلّي صيامك).. وعندما يقترب أذان المغرب ترتفع الزوامير، ويتراكض الناس، وتكتظ الشوارع بالسيارات، وكأن الناس مذعورون من ضيق الوقت! * الطبخات الرمضانية (عظيمها وبسيطها) متقنة التمويل والإعداد والسيناريو والإخراج.. عكس المسلسلات والبرامج الرمضانية التي (تعلك)، وتعاني من الاستعجال، والسلق، وكثرة المرق، وقلة الدسم، وبهاراتها شلفقة.. وتسبب عسر الهضم، وتورث هشاشة العظام! *لا اذكر خصوصية لما يسمى اليوم "سهرات رمضان".. إلا لما ذهبت للدراسة في بغداد.. لرمضان في بغداد طقوس خصبة أدهشتني.. أما في قريتي حوارة فكنا ننام بعد التراويح لنصحو على السحور، ثم يذهب الفلاحون إلى العمل.. ويقرؤون القرآن أو يستمعون له بين العصر والمغرب.. *سحور الطفولة يعني لي رائحة الخبز! كانت أمي تخبز على السحور.. ولاحقاً صارت تسخن الخبز على الصوبة قبل أن توقظنا. *كان صوت مروان شيخو يؤنسنا بتحية الإفطار.. وكانت ردود الشيخ علي الطنطاوي على أسئلة الصائمين تبهجنا.. اليوم أواظب الاستماع لمحمد راتب النابلسي.. أحب الوعظ باللكنة الشامية الهادئة. *أجمل ما في عصاري رمضان الطفولة: تجويد الشيخ عبد الباسط، وترتيل الحصري. ودقة المهباش في المضافة. ورائحة البن المحمص للقهوة التي كان يعدها أبي بعد صلاة العصر.. *أذكر تتن أبو طايل: يفركه على الغربال، وينقيه، ويملأ علبته، ويمصع دفتر الاوتومان من سقفها.. يفرد حجره ويسلي وقته بلف السجائر وإعدادها لما بعد الفطور.. اليوم استمتع بالأرجيلة على مصطبة الدار بعد التراويح، وشرب الشاي تحت الدالية وزهر الياسمين يتطاير من حولنا.. *أذكر طقساً كان يثير الخشوع في نفسي عندما كان جدي يضع المصحف فوق مخدتين، ويقرأ بسرعة، وبصوت مسموع.. فيما جدتي تنود رأسها بخشوع دون أن تسأل، أو تحاول أن تفهم.. ولا يلبث أن يُشيع صوته الأجش خشوعاً مهيباً على البيت ثم على الحارة.. *طبعا نذكر حرب رمضان "التحريكية" عام 1973م ، فهي راسخة في الذاكرة بتفاصيلها.. *رمضانات سجن المحطة لها نكهة خاصة.. (رمضان الحرية) قضيته منفياً في سجن الطفيلة عام 1985م ، وأفرج عني ليلة عيد رمضان من سجن الطفيلة ذلك العام. *أحداث جامعة اليرموك عام 1986م في رمضان.. وتظاهرنا أمام الجامع الكبير تضامنا مع الطلبة.. ولوحقت مع ثلة من الرفاق وظليت طريداً بلا مأوى ثابت طيلة شهر رمضان الكريم.. كان رمضاناً جميلا مشحونا بالطرائف والمفارقات. *أحداث الخبز وقعت في رمضان عام 1989م، وخرجنا للتظاهر في اربد بعد الإفطار.. سجنت ليلتها مع كثيرين وأرسلنا إلى سجن سواقة.. كان رمضان سواقة باهتاً بلا طعم ولا لون ولا رائحة. *في رمضان عادة أقرأ أكثر مما أكتب.. لكني كتبت فصل في رواية الشهبندر(رمضان في عمان سنة1938) كتبته رمضان 2002م. صدرت رواية الشهبندر في رمضان 2004م حيث وقعتها في حفل أقامته دار الآداب في معرض بيروت للكتاب، ودعانا المرحوم سهيل إدريس إلى مأدبة إفطار في اليوم التالي حضرها حوالي 40 صديقا سافروا من عمان إلى بيروت لحضور حفل التوقيع، فيما سماه الصديق موسى برهومة (حافلة الشهبندر).. ودعا يوسف إدريس معنا عددا من الكتاب والمثقفين اللبنانيين والعرب.. لحد الآن أتساءل ماذا كسب من الشهبندر (ماديا) كدار نشر! *كان الدين يسراً. وكان الناس أقل تعصباً وأقرب إلى السماء.. ذات عام جاء رمضان على الفلاحين متزامنا مع موسم الحصاد. فشكا الفلاحون أمرهم للشيخ: فسألهم وهو يعرف: هل يمكن أن تؤجلوا موسم الحصاد؟ قالوا: لا يمكن. قال : الصيام ملحوق عليه، أجلوا رمضان لما بعد البيادر.. اليوم أرى المسجد يكتظ بالمصلين عند صلاة الصبح. أين كان كل هؤلاء المصلين قبل شهر الصوم، وبماذا ينشغلون بعد العيد؟.. أنا واحد منهم، ولا أعرف الجواب! *ويبقى ابد الدهر شهر رمضان شهر البر والإحسان.. شهر أوله رحمة.. وأوسطه مغفرة.. وآخره عتق من النار.