حوّارة الاسم والتسمية: د. منير تيسير الشطناوي
إذا كان علماء اللغة يجمعون على أنَّ الأسماء صفرية الدلالة، فإننا لا نخالفهم في ذلك بعد تداول اللفظة كعلامة للمسمّى، بيد أنَّ الذي نسعى إلى تأصيله هو سبب التسمية وسرّها، وأنَّ هذا المسمّى لمّا اتصف بصفة من الصفات ساقته إلى استحقاق هذه التسمية. ومن هذا المنطلق بحثنا عن معنى كلمة حوّاره في معاجم اللغة، لنربط اللغة بالجغرافيا، والتسمية بالمسمّى.
وعند البحث عن معنى جذر كلمة (حوّارة)، فإنَّ المادة اللغوية التي ترتد لها اللفظة، يمكن أن نحصرها بالجذر الثلاث : (ح و ر) . وقد أورد ابن منظور في لسان العرب مادة لغوية طويلة، ومعاني اشتقاقية مختلفة في تفسير هذه اللفظة. ولا يسع المطّلع على هذه المادة إلا أن يستحضر المكان وهو يقرأ اللغة، ليجعل من نفسه حكما على أصح ما يمكن أن تقع عليه ناظراه، لتكون عيناه: واحدة على المقروء والأخرى على المنظور.
ولست ولا تشبّ بأرضي نار العجم
جاء في لسان العرب: "الحَوْرُ والحَوَرُ: أن يشتدَّ بياض العين وسواد سوادها. وتستدير حدقتها، وترقّ جفونها ويبيضّ ما حواليها... مثل أعين الضباء...وإنما قيل للنساء حُورُ العين لأنهنَّ شُبّهنَّ بالضباء. .يقول جرير:
إنَّ العيون التي في طرفها حور قتلننا ثمَّ لم يحيينَ قتلانا
والحَواريّ: البيَّاض، وهذا أصل قوله، صلّى الله عليه وسلّم، في الزبير: حَوَاريّ من أمتيّ، ...وإنما سمّوا حواريين لأنهم كانوا يغسلون الثياب أي يُحوِّرونها، وهو التبييض، ومه الخبز الحوَّاري... والحُوّاريّ الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه.... وحوّر الخبزة تحويراً: هيّأها وأدارها ليضعها في المَلّة. ...وحوّره: كواه كيّة فأدارها. وفي الحديث أنّه لما أخبر بتل أبي جهل، قال: إنَّ عهدي به وفي ركبتيه حَوراء فانظروا ذلك، فظروا فرأوا يعني أثر كيّة كوي بها.... وحَوْران: بالفتح، موضع بالشام....( )"
إنَّ المتأمل فيما أورده صاحب اللسان يقع على حقائق تاريخية وجغرافية لا يسعه إلا أنَّ يقرَّ أنَّ هذه البلدة لا يصحّ أن تُسمّى إلا بحوّارة. فثمّة مجموعة من المعاني التي تشهد لها بهذه التسمية، ونبدأ بما أثبته في شرح مادتها اللغوية لما قال: "الحَوْرُ والحَوَرُ: أن يشتدَّ بياض العين وسواد سوادها. وتستدير حدقتها، وترقّ جفونها ويبيضّ ما حواليها".
والمتأمل في جغرافية المكان ومشهده البيئي لبلدة حوّارة، يلمس بناظريه هذه الحقيقة فهي سهل مترامٍ بتربته الحمراء وحرثه الأرجواني، تحيط به صفائح هضاب بيضاء وتلال مشرفة من كل جانب، تحفّه كما يحفّ السوار معصمه. فالمنحدر من مرتفعات بشرى وسال شمالاً وتلال ظهر المغر واليصيلة شرقاً يحطّ في سهل حوّارة الوردي، ليسير بخطى لا ترى فيها وجا ولا أمتا، ولينتقل من هضاب كان أهل حوّارة ينتزعون تربتها البيضاء وحجارتها القاسية المعروفة لنا بالحوّر، إذ كانوا يصنعون منها طين بيوتهم، وجرارهم، وأفرانهم، وأقنانهم، بعد أن يمزجوها بموادّ أخرى من تربتهم.
وما زال أهل حوّارة يرتادون "المبيضة" وهي بقعة شمال حوّارة ذات تربة بيضاء ناصعة. مشرفة على سهل حوارة.
لقد اشتدَّ بياض تراب هذه البلدة كما اشتدت حمرة ترابها، وأحاط البياض بالحمرة الداكنة نحو السواد، حتى يخيل إلى كل من ينظر إليها مقلة العين الحوراء، وعيون المها العربية العيناء.
ومما ورد سابقاً في لسان العرب أيضاً: "والحَواريّ: البيَّاض،...وإنما سمّوا حواريين لأنهم كانوا يغسلون الثياب أي يُحوِّرونها، وهو التبييض، ومنه الخبز الحوَّاري... والحُوّاريّ الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه.... وحوّر الخبزة تحويراً: هيّأها وأدارها ليضعها في المَلّة."
ولعلَّ تلمسنا لهذا المعنى لا يقل قربة عن تلمسنا للمعنى الذي سبقه، فحوّارة بادي الأمر كانت تزحف إلى شمالها، وليست في موقعا الحاضر، بدليل ما نجده من آثار مكتشفة في المنطقة المعروفة باليصيلة (ظهر المغر)،(الدوار) وهي المنطقة بين حوّاره والرمثا من الجهة الشمالية الشرقية. وهذه المنطقة أشبه ما تكون سفح جبل ممتد تكثر فيها الآبار والمدافن، ذات تربة طباشيرية (كلسيّة) بيضاء ناصعة تعود إلى العصور البيزنطينية، وقد كشفت دائرة الآثار عن هذه المنطقة، وأعلنتها من المناطق السياحية والأثرية في وطننا العزيز.
وإذا كنّا إلى اليوم نتعارف على التربة البيضاء بالحوّر، فإنَّ تسمية البلدة بحوّارة مشتقّة من هذه التربة إذا عرفنا أنَّ سكنى الناس كان بادي ذي بدء في هذه الرقعة الشمالية منها، ثمَّ أطلق الجزء على الكلّ، وانتقل الناس في نواحيها فاختلفت عليهم تربتها واحتفظوا لها باسمها.
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه يتعانق مع ما أورده صاحب اللسان فيء شرحه لمّا قال: " ومنه الخبز الحوَّاري... والحُوّاريّ الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه..." فقمح حوّارة الذهبي كان كان وما زال مضرب مثل القمح في العالم، بل نَّ أهل حوّارة منذ زمن الرومان لم يحاولوا أن يزرعوا الزيتون في أرضهم، على خلاف ما فعلوه في مناطق أخرى كالكفارات والكورة وعجلون... بل بقيت سهولها تفلح بالحبوب، وظلت محاصيل الحبوب وأيام الحصاد أغنية تتردد في كل موسم، وأنشودة يترنم بها الفلاحون كل عام.
وليس من نافلة القول أنَّ سهل حوران برمته هو خزانة المونة، ومصدر الغذاء الاستراتيجي الذي يوفر بتربته الغنية المحاصيل الغذائية لا سيّما القمح. وإذا كان الخبز الحوّاري خبزا يعرفه ابن منظور لبياضه، فإننا اليوم نعرفه لبياضه الذي يجوّده، ولنسبته إلى حوّاره التي تزيده جوداً.
لعل اللغة بما فيها من إيحاءات تتداخل مع الطبيعة بما فيها من جمال، ولعلنا عدلنا إلى شيء من الخواطر في ترجمتنا لمعنى كلمة "حوّارة" ونحن نتتبع أبعاد المعاني وظلال الدلالة، ولكني أعتذر القارئ الكريم، أنَّ الكاتب مهما حاول أن يتجرّد من عواطفه وانطباعاته لن يصل إلى حالة يكون فيها أشبه ما يكون بالرجل الآلي، فالإنسان تختلجه مشاعره ولا يمكنه أن يتجرد من أحاسيسه مهما حاول التجرد.
وعند البحث عن "حوارة" في كتب الجغرافيا والبلدان، نجد ترجمة لها في معجم البلدان، يقول ياقوت الحموي( ):
"حوارة: بالفتح وتخفيف الواو وراء وهاء، أرض في شعر الراعي روا ية ثعلب مقروءة عليه:
سما لك من أسماءَ همٌّ مؤرّقُ ومن أينَ يَنتابُ الخيالُ فيطرقُ
وأرحلُها بالجوّ عنـدَ حـوَارة بحيثُ يلاقي الآبداتِ العسلَّقُ."
ولسنا نجزم أنَّ لفظ "حوّارة" كما ننطقه الآن بتشديد الواو وضم الحاء، هو اللفظ القديم الحديث لها، فكثيرا ما نقع على أسماء بلدان جرى عليها شيء من التطور والتغير، شأنها في ذلك شأن كثير من أسماء المدن والقرى.
هذه حوّارة في دلالات التسمية، وظلال المعاني، يعانق وسمها وصفها كما يعانق الطفل الصغير أباه، وتغني أغنية حورانية تنسج كلماتها من أهازيج الحصادين وهم يتأبطون مناجلهم، ويحملون مذاريهم. ولحوّارة أقول:
هذه حوّارة مدّت بـدا فتبارى الحبّ والشوق معا
وتراءى وجهها نوراً كما أسفر البـدر جمالا لامعـا
فلعمري كم تنامى حبّها فازدياد واشتياق مشرعـاً
وتهادى من بنيها فتيتة ذات ترحاب تمدّ الأذرعـا
فسلام لأصيحاب على تربها صلّوا وقاموا ركّعا
وسلام لتراب طاهـر كحلّت عيناه جفنا وادعـا
د. منير تيسير الشطناوي