عفارية*.
كانت البيادر قبب الأرض وعيون الحصادين المغمضة ..تكبر في السهول جنباً الى جنب وزنداً الى زند..كانت كواكب شقراء يدور الفلاحون في فلكها ..يسندون ظهورهم اليها ، يدخنون سجائرهم ، يعمرون مخازن أحلامهم الصغيرة كرأس سنبلة، ثم ينطلقون...
في الأفق "شادر" منصوب وطفلة تنام في ظله..وزوجان يكونان بيدرهما بعناية ، صحيح انه بحجم الإناء المقلوب لكنه باتساع السماء... القش الناعم يرقص في جسد زوبعة حزيرانية...ثم يطير معها شرقاً...على سجادة زرع قريب ..تهتز أجراس النعاج ابتهاجاً عندما تقضم بقايا الحصيد المحني ، بعد ان كان محرماً عليها وهو منتصب على ساقه...
في البيدر .. يرتاح القمح من جدل المناجل وحزم "التغمير"، و ينتظر "لوح الدّراس" الذي لا يرحم..دوار دوار دوار..حتى يفقد الحَبّ لبّه..ويفقد اللبّ حبّه..بعدها يلمها "الدرّاس".... "يذرّيها" الى السماء وباتجاه الريح..فتتنامى حنطة الأحلام لتصبح تلة صغيرة من الحقيقة...
كانت بيادر الميسورين محجّاً للأطفال الباحثين عن "براكة"..وللفقراء والغرباء الذين لا يملكون من الأرض سوى أوتاد خيامهم أو مساحات أقدامهم التي تدوسها...يملأون فروج ثيابهم وأكياسهم المطوية تحت آباطهم..ويذهبون مسرورين شاكرين داعين لا يحملون في قلوبهم حسداً ولا ضغينة...فيبارك الله للمنفق ويرضي الآخذ...
عندما يشيخ البيدر.. يعود الى الطين ثانية ..فيلم غلاله وينقل الى الحواصل و"الكواير" الطينية..وفي ختام الكرنفال الموسمي يترك المٌُلاّك وراءهم ما يسمّى "بالعفارية"* تقصّداً..ليأتي من تعزّ عليه نفسه "من المعوزين" فيغربله ويدخره "مونة وقوتاً" دون ان يحرج نفسه او يذلّها بالسؤال..
في موسم الحصاد العربي: يبدو أن بعض الشعوب ظفرت بغلال التغيير..وأخرى رضيت "بعفارية" الاصلاح.
*العفارية : بقايا بقايا القمح المخلوط بالتراب والحصى والذي يصعب فصله..
احمد حسن الزعبي