هاشم غرايبة "منذ نعومة أظافرهم يبدعون "
الخميس, 06 أغسطس 2009 18:30 سحر عبدالرحمن
الروائي هاشم غرايبة
في لقاء عذب نقي صاف نابع من القلب من روح الأرض وشذى عبيرها نحاور الكاتب والروائي والأديب الأردني الإنسان هاشم غرايبة.
" "العمر كله "جمعة مشمشية"، تذوب حلاوته في روحك مثل التوت: حبة إثر حبة.. أو تتساقط أعوامه عند إشارات المرور، مثل أوراق الرزنامة: رزمة إثر رزمة.. "
التوت يهطل على عتبة بيت أمي حبة إثر حبة مثل أيام العمر: أحمر وأبيض وبين بين.. والمشمش صار أصفر، وتلون خده بالأحمر، وزهر الرمان أطل بنجومه الزاهية من بين خضرة الشجر الداكنة، وألواح الصبار الشوكية أخرجت تينها مكللا بتويجات حمر وصفر وبنفسجية تشده المتأمل فيها، ونبات "الشمّام" بدأ يطرح يانع "جعابيره" الخضراء المخططة.. و"شماريخ السناريا" الفضية أظهرت مخملها الليلكي المياس، وكأنها تلوح لنا مودعة.
أقف مشدوها أمام بيدر العدس الذي كاد منظره يختفي من حياتنا، فأخال نفسي أمام غابة جبلية كثيفة تعكس كل ألوان الطبيعة بتناسق باهر! وأتذكر أيام كنا نشتري بحفنة عدس كمشة مشمش، لا نكتفي بعسلها، بل نثني ببذورها، نكسرها، ونأكل لبها.. أو نثقبها، ونفرغها، ونصنع منها ألعابا مسلية.
ما أجمل الصيف! وما ألذ المشمش!"
حوار مع الكاتب والروائي هاشم غرايبة
حاورته : سحر عبدالرحمن
البداية:
ولد في الشمال من الأردن في قرية حواره في سهل منبسط على سهول حوران يناجي الطبيعة ويحاكي الحياة، فلاح امتدت تجربته أعوام وأعوام يتوق إلى بيادر الفلاحين حيث كانت الشمس تعكس ألوان الطبيعة على وجوه الفلاحين لتحصد الخير من أرض حبلى ولكن دوما هناك متغيرات ويبقى الحنين للأرض والحصاد .
متزوج وله ثلاثة أولاد تخرج من ثانوية اربد عام 1970 ، وسافر إلى العراق جامعة بغداد ليدرس المختبرات والعلوم الطبية ومن ثم درس في جامعة اليرموك الاقتصاد، عضو رابطة الكتاب الأردنيين، عضو اتحاد الكتاب والأدباء العرب، يكتب لصحيفتي الرأي الأردنية والقدس العربي اللندنية.
صدرت له من الروايات رواية بيت الأسرار والمقامة الرملية والشهبندر ومن القصص القصيرة هموم صغيرة وقلب المدينة وقد ترجمت إلى الألمانية ، وعدوى الكلام وقد ترجمت بعض قصص هذه المجموعة إلى اللغة الإنجليزية. وصدر له عدة مسرحيات أردنية، وكان له في مجال الكتابة للأطفال، غراب أبيض وغزلان الندى وله دراستان: الخيال العلمي في ثقافة الطفل العربي وأوهام سائدة في أدب الأطفال العربي.
حصل على جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة عن طريق رابطة الكتاب الأردنيين عام 1990 عن أعماله القصصية، كما أنه حاصلٌ على جائزة مهرجان الرّواد العرب للقصة القصيرة، وهي جائزة تمنحها جامعة الدول العربيّة من خلال المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
الأستاذ هاشم غرايبة نبدأ حوارنا:
أولاً: لو طلبت منك أن تحدثني عن هاشم غرايبة الإنسان ماذا تقول عنه؟
* سؤال صعب يا سحر!
كن كما أنت. تصرف كما يريح أعماقك. ربك رب قلوب يا هاشم.. لا هم لي سوى أن أصبح أكثر إنسانية ولأقل ذلك بشكل أفضل: أن أصبح عاديا. أن أصبح عاديا كشجرة، وحرا كعصفور دوري.. المغرور يهرب من العادي إلى التظاهر والتصنع، ويلجأ إلى التأفف والتذمر، أو إلى التميز والتعالي، لا يستطيع أن يصبح إلا قصيا، وغريبا، من يريد أن يخلص حياته ( أي حياته الشخصية ) يفقدها؛ ومن يريد أن يهبها يخلصها ( أو بدقة أكبر) يجعلها حقا حية..
اشعر بإنسانيتي عندما أتناول الفطور مع أمي. عندما اقمع سلوكا يضر بالآخرين. عندما أوصل ابني إلى مدرسته. عندما أدل ضريرا على الطريق. عندما أقرا كتابا جميلا. عندما الجم باغيا.عندما أحاور صديقا ذكيا. عندما أوقف سيارتي لتمر امرأة عجوز. عندما أعيد العلبة الفارغة لمن رماها من شباك سيارته. عندما أراقب غيمات الصيف وهي تغير شكل الفضاء كل لحظة.. وفي النهاية لكل أمريء ظلاله وظلاله، ولكل أمريء حقه في الظلال وفي الظلال..
ثانيا: راقني صوت الأرض وعشقها وهمس الفلاح ومصطلحاته النقية وبساطة الإنسان في كتاباتك، ترى ما هو الهم الأكبر الذي يخالج دوما مشاعرك ويتغلغل في أعماقك والذي تحمله بروحك وتحاول أن تجد طرقا للخلاص منه!
* انتمي إلى جيل آمن بالحرية والتحرير والوحدة.. حرية الإنسان. إنساننا العربي خاصة. وتحرير الأرض: ارض فلسطين والعراق. وكل سبر من أرض العرب. والوحدة العربية من المحيط إلى الخليج.. لكن هذا المشوار الطويل يبدأ من حزني على بيتي وقريتي ومدينتي ووطني..
الغيوم التي تنبجس داخلي.. بودي لو أزيحها بعيداً.
أن أبني منها بيتاً اختبئ فيه، فلا يُفتح الباب لأحد.
لا يُفتح الباب أبدا.
لكن لا شيء يعدل كفة الحزن كالحب.. الحب وحده يجعل لحظات الحياة محسوسة، ولذيذة، وعميقة، وثقيلة في كفة ميزانٍ يميل دائماً لترجيح الخسارات.
ثالثاً: ما هي العلاقة بين ما نكتب على الورق وما نمارسه بحياتنا..
* ومهما تكن عند امرئ من خليقة وان خالها تخفى على الناس تعلم
الناس لهم الظاهر ولا يحفلون بالباطن. كل الهيلمات والبكش الشفاهية التي يتناقلها الناس يتقبلها المتلقي بلا تمحيص، وفي أحسن الأحوال يحولها إلى فرضيات بلا براهين، أو يجري القفز عنها وتضيع في غبار المزاحمة مع غيرها مما يسمع ويرى. وسرعان ما تنسى في حمى الركض اليومي وراء واجبات كل يوم.
أما الكتابة فإنها تمتحن دواخل نفوسنا والمناطق المعتمة التي نحرص على إخفائها. والتدوين يوثق ما يمكن أن يشكل مرجعاً للقياس والمساءلة. الكتابة تمتحننا دائما وبلا مواربة.. وتكشفنا بلا رتوش.
رابعاً: هاشم غرايبه هل هو مؤثر أم متأثرا بواقعه ؟
* مؤثر؟ إذا أخذنا السؤال على عموميته فكلنا نؤثر في الواقع.. فنحن البشر الأحياء بعجرنا وبجرنا بعجزنا وبتجلياتنا نمثل حركة الواقع. أما إذا أخذت السؤال على صعيد تاثير كتاباتي في الواقع فببساطة هي مؤثرة بقدر رواجها في مجتمع نسبة القراء فيه قليلة جدا..
متأثر بالواقع؟ حتماً. نحن أبناء الواقع شئنا أم أبينا حتى الذين يدعون الشطح ومجافاة الواقع يمتحون شطحهم وخيالاتهم من الواقع. الفرق يكمن في المرايا.. مرايا الفن هل هي محدبة مقعرة مستوية..
أحيانا نكتب حالمين بما نرغب أن يكون واقعا.. وأحيانا نكتب عن الواقع متمنين لو انه حلم عابر..
خامساً: "قالت: لكنني لا أذكر متى أنجبته، أعتقد في شهر واحد، يومها كانت الأغنام تملأ باحة البيت وأنا كنت أريد أن أنتهي من ترتيب الغنم قبل أن أنجبه، بعدها دخلت إلى البيت وأنجبته، الحمد لله رب العالمين، في تلك الأيام لم نكن نستصعب الولادة، أنجبته وكانت صحته جيدة ولكنني بعد ذلك مرضت ولم أعد قادرة على الإنجاب......"،
تحاكي المرأة (الأنثى ،الأم) بكثير من نصوصك حدثني عن دورها في كتاباتك؟
* أمي المعلمة الأولى..
أمي؛ دائما أحن إلى دفئك، وأستعيد قصصك قبل النوم..
"كان ياما كان.. كان فيه حديدوان وكان فيه غولة.
- أسنانها.. كيف أسنانها يمه؟
تعيد أمي وتكرر الوصف وأنا مأخوذ بما أسمع، رغم أني سمعت القصة عدة مرات من قبل! تحضر أختي: من الأول يا يمه.
- أووه... ما قلنا وعدنا.
- حلفتك بسيدي شرحبيل من الأول يمه.
- من الأول صعب.
- يا يمه كملي.
- وين وصلنا؟
- لحد ما سكنت الغولة في القرية.
يتراقص لهب السراج في كوّته أمام نسمة صيف رقيقة تمرّ على المصطبة أمام البيت الطيني فتراقص اللهب للحظة، وتكمل أمي: هرب الناس من القرية وتركوها للغولة، وما ظل بالميدان غير حديدوان.. الغولة لحقت حديدوان..
- ومسكته؟
- طَوْلي بالك يا مقصوفة العمر.
- ذات ليلة حاصرته في أحد الأزقة، هجمت عليه. هرب منها. لحقته بمشيتها الثقيلة تهز الأرض من حولها.. اختفى داخل دكان الحداد، مدت يدها الطويلة تلاحقه.. يد الغولة الكبيرة تسد عليه الباب، دق الجدار بعزم.. أدخلت أصابعها تلاحقه.. نظر حديدوان خائفاً أن تمسكه قبل أن ينهار الجدار.. وفجأة صرخت الغولة صرخة هزت القرية وتردد صداها في الجبال المحيطة. سقط حديدوان مذعوراً.. ويا للعجب! شاهد يد الغولة تنكمش وتنسحب مسرعة خوفاً من النار.. الغولة تخاف من النار.. أمسك قطعة خشب طويلة وأشعلها، فانكمشت اليد نهائياً وهربت الغولة. حمل حديدوان ناره وراح يسير في شوارع القرية الخاوية كما يشاء، ولما بزغ الفجر عادت الغولة فاختبأت في مغارتها.
وقف حديدوان على السور وصاح: يا ناس.. الغولة تخاف النور والنار.
صار حديدوان يعمل نهاراً ليجمع ما يقتات به، ويشعل في الليل ناراً تحميه من الغولة.. لكن خطرها ظل قائماً. صار يجلس على سور القرية ويصيح على من تسوقه الصدفة قريباً من السور أن يأتي ولا يخاف. لكن الهاربين نقلوا الرعب لمن التقوا بهم.
.. ذات يوم يا أولاد مرت بنت حلوة وشجاعة، سمعت حديدوان. وقفت عند باب السور. وسلّمت عليه. فرح بها حديدوان كثيراً وقال لها: تعالي نتزوج ونخلف بنيناً وبنات ونطرد الغولة. لكن الغولة استغلت ليلة احتفالهما بعرسهما وراحت تلتهم كل ما هو قابل للاشتعال في القرية..
- هل تأكل الغولة الأخشاب يا أمي؟
- الغولة تأكل كل شيء يا أولادي.. وتبتلع القمر أيضاً.
- القمر لا تبلعه الغولة يا أمي..
- لما كنت في عمرك كنا نخرج مع الناس نحمل علب الصفيح الفارغ نطبل بها،
والرجال يطلقون البارود، ونهتف: هات قمرنا يا غولة.
أقول ساخراً: كأن القمر لا يطل إلا على قريتنا.. هناك شمس وقمر وأرض، خسوف وكسوف..
تقاطعني أمي: يا سامعين الكلام صلوا ع بدر التمام.
- اللهم صلي على محمد وآل محمد.
تتابع أمي: غضب حديدوان كثيراً، وصاح بالناس الخائفين خارج سور القرية أن يعطوه حطباً يجدد به شعلته في الليل، لكن الناس خارج السور كانوا مشغولين بصياحهم وإعداد القرابين للغولة.. لتسمح لهم بدخول قريتهم!
يتراقص لهب السراج ثم ينطفئ مخلفاً خطاً من سناه على كوة الجدار..
تتثاءب أمي: يا سامعين الكلام تحكي ولا ننام؟
- نحكي.. نحكي"
احكِ يا أمي؛ احكِ فصحراء السهر بلا حدود..
سادساً: لك مجموعة من الإصدارات الأدبية في القصة والرواية وكان لك مسرحيات أيضا والكتابة للطفل وكثير من المقالات المنشورة.
مسيرة هاشم غرايبة الأدبية كيف بدأت ومن أين وبماذا وإلى أين وصلت الآن وآخر إصداراتك؟
* كلما تقدمت بي التجربة، أتذكر أني كنت أصنع زوارق ورق أدفعها في قناة النبع فتسري مع التيار ولا أخشى عليها الغرق. الآن ،وقد صار الزورق سفينة ذات ألواح ودسر تأبى السير مع التيار، أخشى عليه الغرق.
دائماً هي الأمور هكذا، كل جيل يرى المياه الصافية في البدء تجري بدون طين. أتذكر أنها كانت خالية من الكلور، واللوز البري يزهر ملاحقاً البراعم الحمراء.. إلى ذلك العالم سارت "النبوءة" ولم يعد يراها أحد.
الآن ودائماً نحن ذاهبون إلى ذلك العالم الذي لا نعرفه.. لقد وُجدنا في هذه الحياة مع كثير من النقص، وعلينا أن نكمل هذا النقص بجهودنا الذاتية.. بحكاياتنا الخاصة.. ولا مناص من المخاطرة، فالمراكب آمنة وهي في المرفأ.. لكن ليس لهذا صُنعت المراكب.
أما آخر إصداراتي: رواية "أوراق معبد الكتبا" تصور الرواية مدينة بترا النبطية بحربها وسلمها، بتجارها وحرفييها، وقيلولة الظهيرة للعاملين في بناء الصرح الكبير، وتصور قضاة المحكمة، والغرباء، والسوق، ونزل زهر الرمان، والصفقات الرابحة والخاسرة، ونبيذ الرمان الحامض، وعجائز الظل القاعدات على الثرثرة يغزلن على عتبة بيت يتباهى برتاجه الصواني، ويحاور الشيوخ متصالبي السيقان يطقون الحصى والمسابح والنرد والمنقلة ويقضون وقتهم بالغمغمات والقهقهات..
وتنتهي الرواية مع بترا بنت اليسار وهي تطوي أوراق عائلة الكتبي:
جمعتُ أوراق أمّي أليسار، ورقاع جدّي سفيان، في جلدٍ متين، وكتبت عليه: "أوراق الكُتَبَا"..
يتحدثون في هذه الأوراق عن الدماء والصخور، عن المجد والخلود، عن الأحلام والفؤوس، عن العقول الفطنة والإرادة القوية.. لم يتحدث عن الأحزان العميقة سواي!
هناك من يقول: "إن الجن أقاموا هذه المدينة، ووهبوها للإنس". وهناك من قال: "بناها العمالقة العماليق، وأورثوها للأنباط النماريد".. لكن السرّ يا فينان؛ هو أن هذه المدينة العظيمة بنتها "الأحلام الكبيرة".. والأحزان العميقة أيضاً.
سابعاً: كيف ترى الجمهور المثقف في الأردن وهل هناك فجوة ثقافية نعاني منها ؟
وكيف تقرأ الحركة الثقافية في الأردن؟
* الثقافة ليست عنصرا مستقلا بنفسه، بل هي تعبير عن موحيات ودوافع المجتمع وميراثه، وهي صدى لكل آمال وآلام الشعب وتشوفاته العميقة وأشواقه الإنسانية الكبيرة.
الثقافة مظهر خطير الشأن، يعبر عن "إرادة هذا المجتمع" ويحمل طابعه العام وينقل نبضه الحي ويصور تياراته الفاعلة.
نتحدث عن الثقافة في خصوصيتها العربية وعمقها الإنساني، في لغتها المسكوبة في إذن الطفل مع حنان الأم، ثم في حيويتها الواعية لحضورها في مسيرة العالم. ما نتحدث عنه هو ذلك الإطار الذي يقودنا إلى عمل مشترك يدعم تحضر المجتمع ويعزز مسيرة الإنماء والأعمار.
من هذا المنظور نلاحظ أن المسافة واسعة بين المأمول والمنجز في حقل الثقافة وما دامت الحكومات المتعاقبة تنظر إلى الثقافة كشأن ثانوي فسيبقى الحراك بطيئا وستظل الثقافة جزرا مبعثرة في محيط اللامبالة والتكلس.
طبعا عندنا مبدعون وإبداعات مميزة في كافة الحقول، لكن إعلامنا ماهر في خلط الغث بالسمين، وخارجيا نسوق الموظفين على أنهم مبدعين ومحلياً نصر على تسويق الرداءة على أنها "وجه البكسة".
ثامناً: ترى لو حدثنا هاشم غرايبة عن الوطن، سنوات السجن، الغربة داخل الوطن... ماذا يقول؟
* شهد الوطن في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات أعلى مد للطفرة النفطية عاشها النــاس ، وقد مست هذه الطفرة بجناحيها البرّاقين كل مناحي الحياة العامة والنفس البشرية لإنساننا، وصلت إلى أعتم الزوايا وأضيقها.. حتى السجن والسجين والسجان عاشوا هذه المرحلة بطريقة خاصة.
في تلك الفترة بدأت أحترف الكتابة.
ففي سجن "المحطة" مثلاً كان أحد النزلاء يحب أن يدخن النرجيلة وهو يمشي.. فكان يسير في ساحة السجن وخلفه خادم يحمل له "الشيشة" يبقبق بها الماء المطعّم بأوراق الغار، وينفث صاحبنا الدخان بغطرسة تليق بالفاتحين العظام!! عام 1982 كان "الازدهار" على أشده، وعايشنا نزلاء "نهمين" سجنوا باسم "قضية البندورة" ، و"ضريبة الدخل" و"مياه الشرب" و"الأراضي والمساحة". ذاك العام أيضاً شهد أكبر حدث مأساوي عِشتُه مع الراديو والتلفزيون - كنت أظنه كذلك على الأقل - إنها مأساة احتلال لبنان، ومجزرة صبرا وشاتيلا. ما أزال أذكر دموع الفرح على وجه المذيع الإسرائيلي "شاؤول مناشيه" وهو يصف ببث حي ومباشر نزول الدبابات الإسرائيلية ميناء جونيه ، واحتلال بيروت.
الآن وفمي مليء بمرارة الحاضر أتساءل، هل في الذاكرة غير الهزائم..إنها فادحة ومتكررة وخلال مدى زمني قصير جداً.. فهل أملك إلا أنشوطة الوهم أرميها على عنق الواقع، لتظل إصبعي الوقحة مشيرة إلى حتمية النصر! هل كان جدّي على حق حين علمني السخرية من الواقع والتشبث بالحلم! أليس الحلم جنين الواقع.
سُمح لنا بعد هزيمة بيروت والبحبوحة النفطية بإزالة بعض الجدران القديمة التي تحجز الغرف عن ساحة السجن ، وأثناء العمل وجدنا جريدة للحزب الشيوعي الأردني مختبئة منذ الخمسينيات ، وأوراق متآكلة محشوة بين الطوب لحزب البعث ، ومراسلات سرية بين أجيال من المعتقلين السياسيين من مختلف التوجهات ، وصورة لعبد الناصر، ورسائل داخلية، وأخبار سياسية عن زمن آخر، وشكاوى ، ورسائل حب.. أي أرشيف للوجع، وأي متعة تمنحها للسجين قراءة كتيبات هاربة من عقد مضى; عن تقي الدين النبهاني ومحمود الروسان وعبد الله الريماوي وعيسى المدانات ومنيف الرزاز ويعقوب زيادين وإسحق الخطيب..
.. ذات ليلة نام السجناء مبكرين ليصحوا مبكرين ل¯ "التفرج" على إعدام أحدهم بحبل المشنقة في الصباح الباكر، وبقيت ساهراً أقرأ "تاريخ الجبرتي" ومتابعته اليومية لدخول نابليون الجامع الأزهر، مترافقاً مع ولادة جَدْي برأسين في حي بولاق، ومعركة المجاورين بالأزهر بين المغاربة والنحاسين، وهاجس إعدام رجل في الصباح، وفرحة إطلاق سراح رفيق أنهى مدة محكوميته، وبراءة وجه عماد مِلحِم وهو يحدثني عن تصورات الطائفة الدرزية وتناسخ الأرواح.. وعن طفولته التي نطقت متحدثة عن حياة أخرى عاشها في زمن غابر، والأقانيم المقدسة: العقل والنفس والروح.. وكتاب الحكمة المخبأ في جذع شجرة ضخمة في "خلوات البياضة". وعلي الطويسي يصوّر لي عرب "البدول" وغرائبية واقعهم، ويحدثني عن عاداتهم ومعتقداتهم التي تجمع الإسلام على ما توارثوه من أجدادهم الأنباط في مدينة البتراء.
أي فانتازيا تراثية تجمعت حولي ، وكيف ستخرج!
تاسعاً: تطرقت في كتاباتك للكثير من الهموم المصيرية، هل كان العلاج الذي طرحته تلك المساهمة التي أردتها في عملية التغيير؟
* كلما تقدمت بي التجربة، أتذكر أني كنت أصنع زوارق ورق أدفعها في قناة النبع فتسري مع التيار ولا أخشى عليها الغرق. الآن ، وقد صار الزورق سفينة ذات ألواح ودسر تأبى السير مع التيار، أخشى عليه الغرق.
دائماً هي الأمور هكذا، كل جيل يرى المياه الصافية في البدء تجري بدون طين. أتذكر أنها كانت خالية من الكلور، واللوز البري يزهر ملاحقاً البراعم الحمراء.. إلى ذلك العالم سارت "النبوءة" ولم يعد يراها أحد.
الآن ودائماً نحن ذاهبون إلى ذلك العالم الذي لا نعرفه.. لقد وُجدنا في هذه الحياة مع كثير من النقص، وعلينا أن نكمل هذا النقص بجهودنا الذاتية.. بتجديد ارادة التغيير فينا بشحذ سيوفنا بحكاياتنا الخاصة.. ولا مناص من المخاطرة، فالمراكب آمنة وهي في المرفأ.. لكن ليس لهذا صُنعت المراكب.
الأديب والروائي هاشم غرايبة أشكرك على ما منحتنا إياه من وقت.
شكرا جزيلا.