بقلم : نبيل الخصاونه النعيمه
كلما عدت الى القرية ، وتملصت من ضوضاء المدينة المهلك ، يممت شطر دوحلا ، لاعثر على راحة البال في رائحة التراب المقلوب لتوه على يدي فلاح طاهر ، لاغبط الطيور ، وهي تغوص من اعالي السماء الى بطن ثلم محفور على جلد الارض ، تلتقط حبة وتعود بفرح الى هناك ، لاحظى بظل شجرة زيتون ، شهدت تقدم عمري وابيضاض شعر لحيتي ، وهي ما زالت شامخة تتمايل مع نسيم ندى الصباح ، تغتسل ثم تهب لاستقبال خيوط الشمس الاولى ، لتعد لاوراقها غذاء الحياه.
هناك الطعم غير الملوث ، هناك الهواء الذي تنفثه الطبيعة من رئة نقيه لم تدنس بعد بانفاس البشر. وليس بعيدا عن شجرة الزيتون وتحت شجرة اللوز ، حوطة، نهضت جنباتها عن وجه الارض ، وقد تراصت فيها ذرات طين الحور الابيض ، فبانت كالصحن، يتوسطها اسطوانة اسمنتيه تستريح على الارض بثقه.
انه بير المي
بير المي، بدلوه الكاوتشوك الواقف بصبر على ظهر خرزته مشدودا الى حبل محبك الربط.
هذا الدلو الذي كنا نشتريه من عند سوق الحدادين بدينار ايام زمان ، يناديني ليطفىء لظى قلبي بقطرات مختمرات هناك في ذلك الخندق العمودي المحفور في الصخر.في الجهة الشرقية من دوحلا هذا البئر الذي احتضن بامانة دموع الشتاء ليغسل فيها جفاف وجه الصيف ،
لقد عجزت كل المدينه ان تقدم ماء باردا، مثل ماء البير وعجزت كل كاسات العالم ان تروي الضمأ كما يرويه دلو الكاوتشوك
المدينه تهدي برادات ماء، منزوعة الحياه ،لا لتطفىء ظمأ ،ولا لتبرد الروح بل لتغرق الامعاء
عند البئر، تقف وتعب الماء من طرف الدلو تاركا لسيل من القطرات ان ينزلق من طرفي شدقيك ، ماسحا اوردة الرقبه ، ثم يتراكض الى صدرك الى اخمص قدميك ، عله يغسل ادران الحياة عن الجسد المنهك تحت وبال الحياة . تعب وقد سرت نشوة في كل اجزاء الجسد الناشف من طعم الحياه.
أترك الدلو مملوأ الى نصفه ، بعدما ارقت الماء على جسدي المتعطش للاغتسال من الدنيا ، فتتسلل القطرات الى بطن البئر بايقاع رهيب ، داعية راسي ان يرمي بصره ليرقب ذلك التواصل بين القطرات وماء البئر المسجونه في الاسفل. وأنظر الى صفحة المياه فأرى صورة وجهي نقيه صافيه ، لا كتلك المشوهه في مرآة الحياه.
تنتهي الاجازة سريعا وأعود ادراجي الى المدينه حيث الهواء يمر ثقيلا والماء اقرب الى الدم بلزوجته وملوحته ودبقه ولوثته.
ايها البئر ابقى صامدا في البريه بعيدا عن دنس المدينة ، فأي لمسة من حضارة لمياهك الطاهره ستحولها الى سم قاتل.
