سواليف حصيدة هاشم غرايبة 6/19/2011
سواليف حصيدة
الموسم جيد، وكتبت برومانسية لذيذة عن سنابل القمح الذهبية، وشرب الشاي على خرزة بئر الماء، وعن جمال سهل حوران، وخصوبة أرضنا المعطاء.. لكني ظلّلت ما كتبت، وضغطت (delete)!
حصدت 60 دنماً ، وجنيت 10 أطنان قمحاً.. ماذا أفعل بها؟.. حقاً أنا محتار؟
هل تطابق حساب الحقل مع حساب البيدر؟!!.. لم أكن قلقاً وأتفقد الحقل سبلة سبلة كما كان يفعل أبي. فما عادت الأرض من أهم وسائل الإنتاج، ولا يشكل المحصول عماد حياة الناس!
بعد البيدر كان أبي يعطي كل ذي حق حقه: سداد الدين، الزكاة، حصة شيخ الجامع، حصة الحاووط، حصة المخضر (حارس الحقول).. الخ.
هذه الأرض ذاتها عملت فيها بمعية أبي حرّاثاً، وبذّاراً، وعشّاباً، وحصادا.. ومنحتنا عيشة محترمة، وأنفقت على تعليمنا في الجامعات أيضا.
تطورت أدوات الإنتاج الزراعي بسرعة، فصرنا نزرع حقل القمح في نصف يوم من أيام كانون، حيث البذار، والكيماوي المضاد للفطريات، والسماد.. يبذر كله من الماكينة (البذّارة) في وقت واحد. ثم نرش الحقل بمبيد الأعشاب الضارة في ربع يوم من أيام نيسان. وفي حزيران نحصد الحقل في ساعة زمن بعد عصر يوم قائظ.. (صار بالإمكان تشغيل ما كنتي حصاد معا في الحقل، بسبب تزايد الأراضي المزروعة اسمنتا واسفلت في قريتنا.. بينما كان أبي ينتظر أياما على راس الحقل ليحظى بماكنة حصاد، وكانت تقوم نزاعات وخصومات بسبب الدور على تلك الماكنة!..).
ولكن ما جدوى المحصول؟
عشرة أطنان قمحا تباع بـ 2500 دينار، يخصم ألف دينار مصاريف البذار والسماد والكيماوى وأجور ماكينات البذار والرش والحصاد آنفه الذكر. يبقى 1500 دينار (أقل من راتب ابني الشهري)!
نعم، إنها سواليف حصيدة!
كان يصاحب جني المحصول مجموعة من السلوكيات والطقوس والعادات والأغاني والألعاب باعتبارها موروث ثقافي ضاربة الجذور، ومنها ما يطلق عليه (سواليف الحصيدة) التي لا تعتمد الصدق والواقعية، بل تروى لتخفيف عبء العمل، ولتبعث المرح والنشاط.. وكان الناس يحبون السواليف بعد عناء يوم طويل..
[.. عند الفجر رأيتُ في السهوب جنيّاً يعزف على قصبة. وكانت جنيّات الوادي الجميلات يرقصن حوله. ولما اقتربتُ. نفرن كسربٍ من الأيائل!
قص أيضاً. ماذا رأيت؟
وصلتُ حقل القمح مع بزوغ الشمس. رأيتُ ثلاثَ عذارى على طرف الموجات الخضر، وكنّ يسرّحن شعرهن الأسود بمشط من ذهب.. ثم يطرن كسرب القطا.
قص أيضاً. ماذا رأيت؟
قبيل الغروب رأيت شيخاً من فضة، يعزف على نايٍ من قصب. وحوله الجنيات يرقصن، وثلاثُ عذارى يمسحن عرقه بشعرهن الحريري.
وكان الناس يحبونه لأنه يقص عليهم الحكايات.
خرج ذات صباح، ككل صباح.. سمع صوت ناي الجني، واقترب. لم تفرْ من أمامه جنيات الوادي، ورفرفن فوقه كسرب القطا.
فرك عينيه، وسار إلى حقل القمح؛ رأى الحوريات الثلاث على طرف الموجات الخضر يُسرّحن شعرهن بمشط الذهب.. ولم ينفرن!
تابع عمله بإزالة الأعشاب الغريبة من بين السنابل اليانعة، والجنيات الجميلات يحمن فوقه كسرب القطا..
قبيل الغروب؛ عزف الجني لحناً مذهلاً.. وجاءت العذارى الثلاث يمسحن عرقه بشعرهن الحريري!!
في ذلك المساء، عندما عاد إلى قريته، وسأله الناس كالأمسيات الأخرى:
هيا قص علينا.. ماذا رأيت؟
أجاب: لم أر شيئا!!]
ذهبت بركة الحصاد، وبقيت السواليف..
حتى عام 1975 كنا نصدر قمحاً وعدساً إلى مرسيليا في فرنسا. اذكر هذا التاريخ لان اندلاع الحرب الأهلية في لبنان ذلك العام أدى إلى حريق محصولنا في ميناء بيروت..
عندي عشرة أطنان قمحاً مثل الذهب، وأشتري كل يوم بنصف دينار خبزاً مفئرناً من مخبز المدينة ذو الواجهات الزجاجية المشعشعة بالأضواء!
سواليف حصيدة.. أليس كذلك؟!